فضاء الهوية المسلمة والتعبير السياسي في شبه القارة الهندية

314

رغم الاستقطاب السياسي الذي تعرفه الهند في الوقت المعاصر، يستمر نمط الندوات الشعرية الأوردية المعروفة باسم “المشاعرة” في اكتساب جمهور واسع، ولا يزال الشعر الأوردي يستخدم لتقديم نقد لاذع لتقلبات الخطاب السياسي، ويمثل وسيطاً تستخدمه “أصوات” مسلمة مختلفة -خاصة شمال الهند- في التعبير عن تصوراتها وكذلك استدعاء ماض لم تكن فيه الدولة القومية الهندية قد ولدت بعد.

وباستخدام المشاعرة كأرشيف وتقليد أوردي، يتساءل العديد من المثقفين المسلمين، غالبًا من خلال الشعر: ما الذي يعنيه أن يكونوا مسلمين وماذا تمثل الهند المعاصرة بالنسبة إليهم؟ كما يمثل طريقة لاستدعاء تراث الهند “المسلم” وكذلك للتعبير عن هوية مسلمة هندية مميزة لا تخجل من تأكيد تدينها، لا سيما في وقت ظهر فيه ولاء المسلمين للهند مرة أخرى باعتباره سؤالًا سياسيًا استقطابيًا.

أرشيف أدبي

في ذلك السياق المفعم بالجدل وإسقاطات الماضي ومخاوف المستقبل، يقدم الأكاديمي الهندي علي خان محمود آباد، المؤرخ والشاعر وأستاذ التاريخ بجامعة آشوكا، كتابه “شعر الانتماء: تصورات المسلمين في الهند 1850-1950” الصادر حديثاً عن مطبعة أكسفورد، ليقدم عبر تتبع “المشاعرة” طريقة لفهم الأماكن العامة من خلال السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية المتغيرة.

ويسعى الشاعر الأكاديمي إلى تحديد الأفكار المتغيرة عن الوطن والوطنية من أجل تقديم وجهات نظر جديدة حول كيفية قيام المفكرين والشعراء والقادة السياسيين المسلمين، بتصور علاقتهم بالهند والمجتمع الإسلامي العابر للحدود.

والمشاعرة نمط ينتمي لثقافة شمال الهند خاصة بين مسلمي حيدر آباد الناطقين بالأوردية حيث يجتمع الشعراء لأداء وتلاوة أعمالهم في ندوات شعرية، ويرتبط ذلك النمط باستدعاء تراث ثقافي مثير للجدل، خاصة عندما يقتبس منها السياسيون مقاطع في خطاباتهم العامة، مثل ما حدث من تلاسن بين برلماني معارض ورئيس الوزراء ناريندرا مودي اقتبس خلاله الاثنان أبيات من الشاعر الهندي الراحل بشير بدر. وللمفارقة فالأبيات نفسها سبق لرئيس الوزراء الباكستاني السابق ذو الفقار علي بوتو أن خاطب بها نظيرته الهندية أنديرا غاندي في وقت توقيع اتفاقية شملا 1972 بين باكستان والهند.

كتاب “شعر الانتماء: تصورات المسلمين بالهند 1850-1950” صدر عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 2020

ويمثل التقليد الأدبي نوعاً من الامتداد لحقبة مغول الهند التي اشتهر فيها شعراء كبار مثل ميرزا غالب (1797-1869) وحتى تراث الأوردو الأقدم الذي ينسب لشعراء أقدم مثل أمير خسرو (1253-1325) الذي يطلق عليه “أبو الأدب الأوردي” وكتب ملاحم شعرية خالدة في مثنويات شعرية لا يزال الكثير منها باقياً حتى الآن.

ويُعرف الشعر المكتوب بالأردية باختصاره وإيحائه، وتتميز قصائد المشاعرة بسهولة فهمها من قبل الجمهور، فليست هناك فجوة تواصل بين الشاعر الذي يتلو القصيدة والمستمعين.

وبمقاله في موقع مارغيناليا لعرض الكتب، اعتبر الأكاديمي بجامعة بنسلفانيا الأميركية عبد المنان بهات أن كتاب محمود آباد نجح في استكشاف العلاقة الفريدة -ما قبل الحداثية- بين القصيدة وشاعرها والجمهور، مما صنع مساحة للتمتع والتأمل والانتماء في تقاليد جنوب آسيا الأدبية.

الذات المسلمة والانتماء التعددي

ويجادل محمود أباد بأنه بحلول أوائل القرن العشرين أصبحت جلسات المشاعرة مكانًا يتم فيه التفاهم حول الذات الإسلامية والانتماء السياسي، وفي الوقت الذي صعبت فيه جائحة كورونا من استمرار العلاقة الحميمة بين الشعر والشاعر والجمهور، يستحضر الكتاب حنيناً للتلاوة الأدبية في تجمعات الشعر التي يسميها “أرشيف للوجود والانتماء”.

ويغطي الكتاب بطرق علمية ومنهجية العديد من الزوايا النقدية العابرة للتخصصات، بما في ذلك التاريخ والدراسات الدينية والدراسات الأدبية، وكذلك الآفاق السياسية والتقنية التي تكشفت عبر قرن من الزمان، مما يمثل إشارة وتذكرة بزمن لم تكن فيه الدولة القومية واقعا معاشاً في كل مكان.

وبحسب بهات، يركز النصف الأول من الكتاب على الفضاء الشعري وينسج سردًا دقيقًا لتقليد المشاعرة، متتبعًا انتشاره من ممارسة منسقة تقتصر على النخب الاجتماعية والفكرية ليمتد في وقت لاحق إلى مساحات سياسية وثقافية وجملية شمال الهند العريقة.

ويناقش النصف الأخير من الكتاب مفاهيم الوطن والمجتمع والأخوة الدينية بين مجموعة المفكرين المسلمين البارزين، ويولي اهتماما خاصا للقصائد التي تعبر عن “حب الوطن” والشعراء الذين كتبوها وألقوها بمجالس المشاعرة، متلمساً طرق تعبيرهم عن علاقاتهم الوطنية مع مجتمعهم الهندي وعلاقاتهم الدينية مع المسلمين غير الهنود، ويستنتج -عبر تحليل النصوص الشعرية- وجود تعددية في مفاهيم المسلمين الهنود عن الانتماء.

ويستند المؤلف كذلك إلى روايات السير الذاتية لشعراء الأوردو ومقالات صحفية ومقصوصات من مجلات أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، ويعتبر بهات أن الشعر الأوردي له علاقة خاصة بالتقاليد الشفهية، معتبراً أن مفهوم التلاوة لا غنى عنه لفهم تعامل المسلمين عبر الزمان والمكان مع القرآن الكريم.

المعرفة الاستعمارية

ووفقًا لمحمود آباد، فإن جزءًا مهمًا من تاريخ المشاعرة هو تفاعلها مع أنماط المعرفة الاستعمارية. وكممارسة، كانت المشاعرة موجودة جنوب آسيا في وقت مبكر من القرن السادس عشر، وهي جزء مما يسميه التراث الهندي الإسلامي المميز.

واعتبرت القوى الاستعمارية، بعد أن أطلقت العنان لمذابح اجتماعية سياسية تستهدف المسلمين في دلهي وشمال الهند أعقاب انتفاضات عام 1857، أن تقاليد المشاعرة تمثل تهديدا لسياساتها الثقافية.

ثورة السيبوي سنة 1857 ضد حكم شركة الهند الشرقية البريطانية انتهت بقمعها وزوال سلطنة مغول الهند

ويتتبع المؤلف جهود الاستعمار لتغيير ميول الشعراء، والتلاعب بتقاليد المشاعرة عبر الترويج لمواضيع شعرية جديدة ورعاية شعراء بعينهم.

ويخصص محمود أباد فصلاً كاملاً لدراسة تأثير التكنولوجيا الجديدة، وبالأخص المطبعة، على تقاليد المشاعرة وانتشارها، ويدرس كيف أصبحت جزءًا مهمًا من المجال العام لشمال الهند.

ويدرس كذلك كيف حشد الرجال والنساء لسماع الشعر في ندوات المشاعرة الأوردية، مما ساهم في إحداث تغيير ملموس بالمجتمع، ترافق مع تطور وسائل النقل، مثل شبكات السكك الحديدية ووسائل المواصلات التي أسهمت في تحسين قدرة الشعراء -والجمهور- على التنقل عبر الأماكن بسهولة نسبية.

مادية ومعنوية

يقول الكاتب إن هناك تغييرا كبيرا حدث في مفهوم “حب الوطن” يمكن تلمسه بتحليل نصوص المشاعرة، فقد تحول من حب ميتافيزيقي إلى حب محصور بجغرافية محددة. ومع ذلك، ظل الشعر يمثل نوعاً من التمرد على الجغرافيا والحدود السياسية، مستقطبا جمهوراً أوسع من مواطني الدولة القومية الحديثة.

ويعتبر أن الشعراء ارتادوا آفاقاً متعددة، وقاموا بمحو المسافات، وربطوا الولاءات بانتماءات متعددة وهويات جماعية بدون قلق من تسيد إحداها على الأخرى، بما في ذلك الانتماء للوطن و”الملة”. ويناقش كذلك كيف استخدمت كلمة “قوم” للإشارة إلى المجتمع المسلم جنوب آسيا لتأكيد العلاقات العابرة للحدود بين المجتمعات المسلمة.

ولا يظهر الشعر في الكتاب كتقليد أدبي فحسب، فالقصائد لا تعيش فقط على صفحة بل تتنقل في جميع أنحاء العالم، ويستجيب لها الناس ماديا ًومعنوياً.

ولا تكمن مساهمة محمود أباد في تحليله للمصادر فحسب، بل أيضًا توسيع فهمه للأرشيف الشعري، أو المساحات التي يُتلى فيها الشعر كأرشيف للتفكير في ذوات المسلمين. ويتأمل الكتاب كذلك في الطبيعة المادية والتجسيدية والأدائية لتقاليد المشاعرة، بما في ذلك تناول العادات والترتيبات والملابس المرتبطة بهذه الندوات الشعرية.

يختم المؤلف لا بكلماته الخاصة، ولكن بمقطع شعري يقول “سأجمع الأغصان مرة أخرى من هذه الحديقة لبناء عشي… لأن بيتي قد اشتعلت فيه النيران ولدي كل الوقت الممكن في العالم”.

Original Article