شيء من الذكريات

433

كنت هناك في ذاك المساء ألهو مع بعض ألعابي المكسورة الاجزاء، والدي الى جانبي يداعبني وأنا ألهو، يمسك بدميتي التي أحب يحاول ان يعيدها الى شكلها الطبيعي وهو يقول: هدى حبيبتي سأشتري لك دمية جميلة في العيد القادم إن شاء الله، لكن الآن سأعيد لصق هذه الدمية حتى تلهو معك ما رأيك؟ أتذكر أني قفزت من الفرح الى حضنه قبلته قائلة: اريد لون ثوبها وردي وشعرها أصفر يا ابي، كنت سعيدة جدا بدميتي التي ستأتي فسالته ومتى العيد يا أبي؟ ردت والدتي وهي تبتسم بعد شهرين يا حبيبتي هدى إن شاء الله عندما يرزق الله بابا سيشتري لك ما وعدك هو لا أنا… ضحكوا وأنا معهما دون أن اعرف لم قالت بعد شهرين؟ ربما أرادت أن تنقذ أبي من الإحراج بالرد…

رجال ببنادق و وجوه مليئة بالكره والحقد داهمت بيتنا الصغير دون إستأذان، هجموا على والدي بالضرب بأعقاب البنادق لم يستطيع ان يدافع عن نفسه الدماء كانت تسيل من على جبهته وأنفه وهو يصرخ من أنتم؟ ماذا تريدون؟ دفعوا بأمي بعد ان ركلها احدهم وهو يصرخ اذهبي بعيدا يا قحبة… جدتي اخذت بالصراخ رحمتك يا رب حسبنا الله ونعم الوكيل وين تأخذون أبني؟ منو انتم؟

لحظات كان الخوف قد ابتلع حركتي، اصرخ بلا صوت رافعة يدي الصغيرتين في محاولة لدفع من يضرب أبي المسكين نالتني منه صفعة اطاحت بي..

سُحِل والدي مثل جثة هامدة، خارت قواه من كثرة الضرب، أمي تصرخ وتلطم وجهها، جدتي تبكي وتدعو أما أنا بقيت ممسكة بدميتي التي كانت ملطخة بدم ابي أحتضنها… سارعت الى جدتي قائلة: جدتي الى اين يأخذون أبي؟ دخلوا الجيران شاركوا امي وجدتي في البكاء، ما اجمل ان يشاركك جارك في محنتك كجار حقيقي لا فضولي!!

ساعات ليل طويلة كانت امي تبكي وجدتي تصلي اسمعها تقول: إلهي أنت القوي على كل ظالم، ( إلهي ألطف وأرحم بابني محمد ترى هو مسكين وفقير أنت اعلم بحالنا ومحتالنا) اللهم لا أسألك رد القضاء لكني أسألك اللطف فيه، كنت ضائعة بينهما، تارة أمسح دموع أمي وتارة دموع جدتي، أما أنا فأمسح دموعي بدميتي الملطخة بالدم… سألت جدتي: من الذين ضربوا أبي وأخذوه؟ هل سيرجع؟

أمسكتني تحضنني بقوة قائلة: الله وحده يعلم متى، سيعود أن شاء الله، الله يَفك أسره هو القادر على ذلك.. سارعت الى غرفتها وانا اجر عبائتها المصفرة هيا جدتي لنذهب الى الله الذي تقولين أنه قادر على فك اسره، نرجوه أن يساعدنا في إحضار أبي الى البيت هيا جدتي قومي..

أغمى على والدتي وهي تجهش بالبكاء حين سمعتني اقول لنذهب الى الله

ايام سوداء طويلة مضت لا زلت اتذكر ذلك المساء، زمن ولى، تغير النظام، كبرت وها أنا في أول فصل من كلية الإدارة والإقتصاد أما بيتنا فلا زال في نفس الزقاق القديم تغير كل شيء إلا نحن والدي الذي خرج بعد دخول الإحتلال، فقد إحدى عينيه أثناء التعذيب، علمت ذلك بعد ان عرفت أنه كان منتميا الى فكر غير فكر المقبور… علمت أيضا أن جميع اصدقائه في المحنة تغيرت أحوالهم باتوا من صناع القرار والمال، أما والدي فلا زال كما هو شغوف بالكتابة مع ثلة من هم على شاكلته… كان عيد ميلادي التاسع عشر، جدتي الهرمة جدا وأمي التي كافحت وصبرت طويلا على ان تجعل من البيت واقفا على قدميه حتى عودة صاحبه كما تردد على مسامعي في كل يوم تقريبا، تأخر أبي رغم أنه يعلم أن أمي ارادت ان تحتفل بعيد ميلادي وبمناسبة دخولي الجامعة، انتظرنا طويلا حتى اخذت جدتي تقلق أعرف ذلك بعد ان نزعت السبحة عن رقبتها والتي لا تفارقها ثم أخذت تسبح اللطف منك… اللطف منك… لحظات تُقبِض النفس، الإنتظار مخيف بالنسبة لنا لأنه يشري الأوقات الجميلة بثمن بخس، أحد ما يطرق الباب قفزت إنه أبي اعرف كيف يطرق الباب، كنت سعيدة بسلامته أمي وجدتي تهللت وجوههم بإطلالته… اوقدت أمي الشموع اجتمعنا حولها مثل الفراش نخاف ان يلسعنا لهيبها، لكن سرعان ما اطفأتها وسط كل عام وانت بخير حبيبتي هدى، فرحتي فاقت تصوري العالم كله ملكي، أمي ابي جدتي ودميتي التي كانت الى جانبي لا زال عليها أثار بقع الدم… دم ابي

سمعته يناديني هدى حبيبة عمري انظري ماذا احضرت لك هدية بعيد ميلادك… يا إلهي!!!!

إنها دمية احلامي رائعة جدا فثوبها وردي، شعرها اصفر كما تنميتها، رميت بنفسي على صدره اقبله وأنا اقول لم تنسى يا أبي لم تنسى!! كم احبك وامي وجدتي… هيا لنقطع كيكة عيد الميلاد..

فجأة داهم البيت اشخاص بلحى وبنادق ولباس اسود… هجموا على أبي بعد ان ضربوه لكنه قاوم وهو يصرخ عليكم اللعنة يا خنازير إنكم اذناب السلطة يا سراق الوطن، أنتم اشر من ذلك الصنم لعنة الله عليكم… أنا أمي وجدتي كنا في صدمة!!! لم نحرك ساكنا

أخذوا أبي رغم الحرية والديمقراطية التي ألبست الى وطن قطعوا أوصاله بحجة الفيدرالية، ضاع والدي من جديد كما ضاع وطني، تحولت حياتنا الى جحيم بعد ان طمحنا ان يكون الهواء فيها غير ملوث، ظننت أن يحكم البلاد بالدين والاغلبية سيفشي السلام الحرية، لكنه أفشى النفاق والفساد ثم البسه ثوب التدين المستورد مثلما افشت الأيام شيئا من دفتر الذكريات.

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

المصدر