جاسم الحلوائي
في يوم 7 آذار من عام 1963 أعلن الحاكم العسكري لسلطة الانقلاب الفاشي عن إعدام ثلاثة رفاق، اثنان منهم من أبرز قادة الحزب وهما: الرفيق حسين أحمد الرضي (سلام عادل)، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، ومحمد حسين أبو العيس، عضو المكتب السياسي. أما الثالث فهو الكادر الحزبي المتقدم والشاعر حسن عوينة. وهذا المقال مكرس للحديث عن الشهيد عوينة لمناسبة حلول الذكرى السنوية ليوم الشهيد الشيوعي 14 شباط، ففي مثل هذا اليوم قبل اثنان وسبعون عاماً استشهد قادة حزبنا الأماجد.
وقبل الدخول في الموضوع لا بد من الإشارة الى أن الرفاق الثلاثة لم يُقدموا الى أية محكمة ولو صُورية ولم يُعدموا شنقا، وإنما قتلوا تحت تعذيب وحشي باعتراف البعثيين أنفسهم في مذكراتهم عن نظامهم المقبور.
ولد الشهيد حسن محسن عوينة عام 1931 في مدينة النجف، وكان والده رجل دين. انخرط عوينة في النضال الوطني والثوري منذ أن كان طالبا في المتوسطة، وقد ساهم في وثبة كانون عام 1948 مساهمة فعالة من خلال القاء الخطب والقصائد الحماسية في المظاهرات والاجتماعات الجماهيرية.
تعرض عوينة للاعتقال أكثر من مرة في تلك الفترة مما اضطره الى مغادرة مدينة النجف ليقيم في بغداد. أعتقل في بغداد في عام 1949، وكان آنذاك حلقة الوصل بين بعض المنظمات خارج العاصمة وقيادة الحزب من خلال محل مكوى في علاوي الحلة في جانب الكرخ، وتعرض عند اعتقاله للتعذيب في دائرة التحقيقات الجنائية سيئة الصيت، وكان موقفه صلبا فتحَمل التعذيب وخرج من الامتحان سالما. حكمت عليه محكمة النعساني العسكرية بالسجن لمدة سنتين قضاها في سجن الكوت. كان سجن الكوت آنذاك بمثابة معهد لتخريج الكادر الحزبي. استفاد عوينة من
السجن لتنمية إمكانياته بانخراطه بمختلف الفعاليات بما في ذلك قرض الشعر. ومن شعره آنذاك القصيدة المشهورة التي تحولت الى نشيد للشيوعيين ومطلعها:
حصن حزب أشاده فهد كيف تسطيع هدمه قرد
وبعد خروجه من السجن وخلال النصف الأول من الخمسينيات انتج حسن الكثير من الشعر وشهدت تلك الفترة ذروة عطائه الأدبي وقد نشر الكثير من القصائد في الصحف التقدمية آنذاك كالثبات والعقيدة وغيرهما.
ساهم حسن عوينة مساهمة فعالة في انتفاضة تشرين الثاني عام 1952. ولم يقتصر دوره في هذه المرة على الدعاية والتحريض، كما كان الحال في وثبة كانون، بل تعداه الى المساهمة في توجيه وتنظيم المظاهرات الجماهيرية والفعاليات النضالية الأخرى. واصبح عوينة بعد الانتفاضة هدفا ثمينا للأجهزة القمعية فاضطر للاختفاء وترك مقاعد الدراسة.
أعتقل حسن عوينة في بغداد مرة أخرى عام 1955، وكان آنذاك محترفاً للعمل الحزبي، وتعرض للتعذيب فصمد وصان أسرار الحزب. حكم عليه بالسجن لمدة سنتين ونصف قضاها في سجن بعقوبة. وفي هذا السجن التقيت حسن لأول مرة وليوم واحد فقط، وأعجبت بشخصيته وقد خلف لدي انطباعا حسنا. والتقيت به مرة أخرى، بعد أكثر من سنة في نفس السجن في القسم الانفرادي ولكن لفترة طويلة نسبيا، فنشأت بيننا علاقة ود متبادلة وراسخة.
كان حسن ممثلنا في السجن أمام ادارة السجن ومديرها علي زين العابدين، الذي اشتهرت ادارته بالقسوة والبطش ومصادرة أبسط الحقوق ومنها القراءة والكتابة بما في ذلك قراءة الصحف اليومية أو حتى حيازة ورقة أو قلم، وإخضاع السجن والسجناء للتفيش الدقيق يوميا وتعريضهم للعقوبات الفردية والجماعية لأتفه الأسباب أو بدون أسباب أصلا. في تلك الظروف الصعبة كان حسن يقوم بمهام خطيرة ومن هذه المهام حصوله على جريدة يومية بشكل سري. وكانت الأدبيات الحزبية تخبأ عنده تحت ملابسه الداخلية لأنه أقل عرضة من الآخرين للتفتيش الدقيق باعتباره ممثلنا، وقد عرفت هذا السر منه بعد ثورة 14 تموز. فقد كان حسن بعيداً عن الثرثرة وحب الظهور.
بعد ثورة 14 تموز جمعتنا لجنة منطقة الفرات الأوسط، كنت أنا عضوا فيها وهو عضوا في مكتبها ويرأس تحرير جريدة “صوت الفرات” ومقرها في مدينة الحلة. كان حسن متفتح الذهن لا يتضايق من الاختلاف في الرأي وعادة ما كان يصغي للآخرين في الاجتماعات أولا ومن ثم يبدي رأيه باختصار ووضوح وقد يملّح رأيه بنكتة تسر الجميع.
عندما انتقلت للحلة كسكرتير للجنة المحلية كنت التقي عوينة يوميا. ولم تدم هذه الفترة أكثر من بضعة أشهر انتقلت بعدها الى الكوت في حين انتقلت عائلتي مع أخي حميد من كربلاء الى الكاظمية وأصبح البيت المركز الرئيسي للمراسلة وتوزيع الأدبيات بإشراف الشهيد حسن عوينة. وكثيرا ما كنت التقي حسن عند زيارتي لعائلتي. وقد ودعني عشية سفري الى الخارج
للدراسة الحزبية في نهاية عام 1961، وكان ذلك وداعنا الأخير. وهكذا يمكن القول بأني عرفت حسن، خلال هذه السنوات، عن كثب.
لم أتذكر بأن علاقتي قد توترت مع حسن في يوم ما، مع أن توتر العلاقة، أحيانا، بين أعز الأصدقاء أمر طبيعي، ولكن أتذكر أن نقاشا حادا حصل بيننا في مدينة الحلة في خريف عام 1959 عندما اختلفنا في الرأي حول قصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، نشرت في جريدة (صوت الأحرار)، كانت تؤله عبد الكريم قاسم وتصفه بالأوحد الأوحد، وقد اعترضت على ذلك فانسحب النقاش الى تقييم قاسم وسياسته التي انتقدتها وكنت أميل للتشاؤم من مآلها، ولم يتفق حسن معي في الرأي، فتحمست لرأيي وارتفع صوتي مشوبا بالتوتر العصبي، وهنا لاحظت بأن حسن خفض صوته دون المستوى العادي وقرأت اللوم في عينيه، فأفقت لنفسي فخفضت صوتي وندمت لتجاوزي على رفيق أعتبره معلمي. وقد اعتذرت له في نفس اليوم عن تصرفي غير الملائم وكان مثالا للتسامح.
امتاز حسن بنزاهته ومصداقيته وكان خفيف الظل سريع البديهة وحاضر النكتة وكانت تعليقاته لاذعة ولكنها مهذًبة، فلم أسمع منه يوما لفظة بذيئة. مع بوادر ارتداد قاسم وانتعاش الرجعية اغلقت جريدة (صوت الفرات) وفصل عوينة من نقابة الصحفيين باعتباره صحفيا طارئا، وهو الأديب والشاعر ورئيس تحرير جريدة، فأخذ حسن يقدم نفسه لمعارفه وأصدقائه متهكماً (صحفي طارئ)! متوخياً بذلك إدانة الإجراء التعسفي ضد حرية الصحافة والرأي.
تزوج حسن من زهور الحكيم شقيقة المناضل المعروف صاحب الحكيم وأنجبت منه ولداً اسمياه فلاح. تبادلت مع الدكتور فلاح الرسائل عندما كنت أكتب ذكرياتي، وقد نشرت تلك الرسائل على مواقع الانترنيت ولا تزال في أرشيفها، وتضمنها كتابي الذي صدر عن دار الرواد في بغداد عام 2006 تحت عنوان “الحقيقة كما عشتها”. وقد جاء في نهاية جوابي على احدى رسائله ما يلي :
فرحنا كثيرا، أم شروق وأنا، عندما قرأنا عنوانك وعرفنا انك أنهيت تعليمك بمستوى دكتور في فرع علمي. فلا عجب، فهذا الشبل من ذاك الأسد. ومن حق أم فلاح أن تفتخر بك.
لا أظنني سأضيف جديداً لمعلوماتك لو كتبت لك انطباعاتي عن والدك، لأنني متأكد بأنك سمعت ذلك من غيري. فإن رقة أبو فلاح وشاعريته وذكاءه المتقد وانسجامه مع نفسه وصراحته وتواضعه الجم كان واضحاً للجميع. لقد كان حسن عوينة مناضلاً صلباً وإنساناً رائعاً ً. ”
المجد والخلود للشهيد حسن عوينة وجميع شهداء الحزب والحركة الوطنية التقدمية.
المجد والخلود لشهداء انتفاضة تشرين العام 2019 ولجميع ضحايا الارهاب في العراق.