جنوبي العراق: المياه الملوّثة تهدّد الصحة العامة

239

تحسين الزركاني

رغم إنفاق مئات مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية، تتراجع الخدمات الأساسية ويفتقد المواطنون في وسط وجنوبي العراق الى البنى التحتية، ويفتك الجفاف صيفاً، وتلوث مياه الأنهار بمياه الصرف الصحي شتاءً، بحياة المواطنين.

وتعد محافظة الديوانية (١٨٠ كم جنوب العاصمة العراقية بغداد)، من المحافظات التي تعاني من انعدام شبكات تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي، الأمر الذي يتسبب بغرقها مع أبسط زخات المطر شتاءً. تعمد الدوائر البلدية في الديوانية الى تصريف تلك المياه الى الأنهار دون معالجة لتسهم بارتفاع نسبة التلوّث فيها خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة صيفاً لتؤثر على صحة المواطنين والتنوع الإحيائي.

خسر المواطن تركي كاظم عبود (٧٩ سنة)، محاصيله الزراعية ومواشيه التي لم يبق منها إلا القليل، جراء جفاف الأنهر صيفاً التي كانت يوماً تغذي قريته (البوحسين)، (٧٣ كم جنوب شرقي مركز مدينة الديوانية)، حتى الآبار الارتوازية لم تمنحهم الماء الصالح للشرب فبات سكان القرية يترقبون حلول فصل الشتاء.

يترقب عبود وسكان قريته حلول فصل الشتاء لتمتلئ تلك الأنهر بالمياه من جديد، لكنها أتتهم بما كانوا يجهلوه، فتلك المياه وصلتهم ملوّثة بسبب اختلاطها بمياه الصرف الصحي.

ويقول عبود، إن “الماء الذي نشربه مشبع بالكبريت، بسبب تلوثه بمياه الصرف الصحي والمبازل، فصار أطفالنا يدفعون الثمن بأمراض جلدية غريبة”.

ووفقا لـ “الأمم المتحدة”، اضطر نحو 4 آلاف شخص إلى مغادرة منازلهم في آب 2018، على الأرجح لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على كفايتهم من المياه الصالحة للشرب، لكن لم تُثبت بوضوح بعد هذه العلاقة السببية.

في تلك السنة، انخفضت المياه المتدفقة إلى شط العرب في مدينة البصرة، وقنواته من الأنهار في المنابع، مما أدى إلى ارتفاع مستويات مياه الصرف الصحي، والتلوّث الزراعي والصناعي، وملوحة المياه. ويعتقد بعض الخبراء أن الأزمة الصحية سببها تكاثر الطحالب جراء الإدارة السيئة لمياه الأمطار والصرف الصحي. لقد هجر أشقاء عبود القرية التي ولد فيها آبائهم، بسبب شُح المياه وتلوثها، فيما بقى في القرية من لا يمتلكون ثمن شراء المنازل في المدن بحثاً عن حياة وهوية جديدة.

أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش، في تموز عام ٢٠١٩، عن تقاعس السلطات العراقية عن إدارة وتنظيم الموارد المائية في العراق بشكل مُناسب، مما أدى إلى حرمان سكان محافظة البصرة جنوبي العراق – البالغ عددهم حوالي 4 ملايين نسمة – من حقهم في الحصول على مياه شرب مأمونة. ويعد نهر شط العرب وقنوات مياهه العذبة مصدر المياه الأساسي في البصرة، لكن الإخفاقات الحكومية المتعددة منذ الثمانينيات، بما في ذلك سوء إدارة المنابع في أعلى النهر، وسوء تنظيم التلوّث والصرف الصحي، والإهمال المزمن وسوء إدارة البنية التحتية للمياه، تسببت في تدهور نوعية هذه المجاري المائية.

ويؤكد الناشط البيئي، ليث العبيدي، أن “مديرية مجاري الديوانية تلقي مياه الأمطار من خلال المذبات (المصبات)، في نهر المدينة، ولتجاوز المواطنين على شبكات مياه الامطار وربط مياه الصرف الصحي الثقيلة عليها، فان أخطار التلوث تهدد التنوع الاحيائي وقبله حياة المواطنين للإصابة بالأمراض الجلدية والمعوية وغيرها، باعتبار أن نهر الديوانية (أحد فروع نهر الفرات)، المصدر الوحيد لتأمين مياه الشرب للمواطنين”.

أحال مجلس الوزراء العراقي في العام ٢٠١٠، مشروع مجاري الديوانية الكبير، على شركة الرافدين المختصة في بناء السدود، وإحدى تشكيلات وزارة الموارد المائية بمبلغ ٢١٨ مليار دينار عراقي، لكن الشركة لم تنفذ حتى اليوم أكثر من ٤٠٪ بعد إنفاقها لمعظم المبلغ المخصص لإنهاء المشروع، الأمر الذي تسبب بانهيار البنى التحتية لغالبية مناطق مركز مدينة الديوانية، ما أجبر المواطنين على ربط مياه مجاريهم الثقيلة على شبكات الأمطار.

ويوضح مدير مجاري الديوانية، حيدر الميالي، أن “محافظة الديوانية ليس لديها نقاط لرمي المياه الثقيلة في نهر المدينة بشكل مباشر، إنما هي مياه سطحية ومياه أمطار تم التجاوز عليها من قبل المواطنين، بسبب اضطرارهم لعدم انجاز مشروع مجاري الديوانية الكبير”. ويشير الميالي، الى أن “نظام المجاري في العراق نظام منفصل، يتيح الى مديريات المجاري بتصريف مياه الأمطار بشكل مباشر إلى الأنهر”.

يهدد تلوث الأنهار بمياه الصرف الصحي الثقيلة حياة المواطنين والتنوع الاحيائي والتربة، بعد أن سجلت مدير بيئة الديوانية وجود ٢٣ مصباً للمياه الثقيلة والمبازل على نهر المدينة، بحسب مديرتها، رغد عبدالسادة. وترى عبدالسادة، أن “التجاوز على شبكات الأمطار بربط الصرف الصحي عليها، يهدد البيئة ويؤدي الى تلوث مياه النهر ويتسبب بظهور العديد من الإصابات كما حدث في البصرة عام ٢٠١٨”.

الأسباب المحتملة للأمراض تشمل الفيروسات (النوروفيروس)، والطفيليات (الجيارديا أو الكريبتوسبوريديوم)، والبكتيريا (الإشريكية القولونية)، والمعادن السامة من مياه الصرف الصحي والتلوّث الزراعي والصناعي. قد تكون الملوحة العالية للمياه قد ساهمت أيضاً في تفشي المرض في البصرة عام ٢٠١٨، وفقاً لخبراء شاركوا في اختبار عينات المياه خلال الأزمة.

ويبيّن مدير ماء الديوانية، حسن نعيم، أن “عدة مراحل تبدأ بأخذ العيّنات من الماء الخام في آبار السحب الموجودة بمشاريع الماء من قبل شعبة السيطرة النوعية، لتحديد نسبة العكورة والأملاح والشوائب في الماء قبل ضخها الى المواطنين”.

حتى عند إضافة الكلور، فإن المستويات العالية من التعكر أو الملح في الماء تجعل الكلورة (إضافة الكلور) أقل فعالية لقتل البكتيريا. كما أن شبكات الأنابيب في الغالب مشققة، وتسمح بدخول المياه الجوفية الملوّثة بالبراز إلى الشبكات بحيث أن كمية الكلور المُضافة في محطات المعالجة لن تُعالج على الأرجح بشكل فعال الملوّثات الجديدة التي تدخل النظام، بحسب هيومن رايتس ووتش.

عدم وجود سلطة قوية تسيطر بالقانون على المراشنة (أدوار السقي بين المزارعين)، يتسبب في المشاكل والنزاعات بين المواطنين، بسبب التجاوزات على الأنهر، كما يرى، صباح مظهر، شيخ أحد القرى جنوب المدينة.

لكن قائد شرطة الديوانية، العميد حيدر حسن منخي، يوضح أن “المادة (٢٤٠) من قانون العقوبات العراقي المرقم ١١١ لسنة ١٩٦٩، تحاسب كل من يتجاوز على أي مرفق من مرافق الحياة، ومن بينها التجاوز على الأنهر”.

إطلاق حملات الحشد والمناصرة للدفاع عن البيئة والمياه بتغير مسارات المبازل عن الأنهار، أو استكمال محطات معالجة المياه الثقيلة وتدويرها قبل أعادة استخدامها، قد تكون حلولا مناسبة للخلاص من أزمات التلوث، كما يعتقد الناشط البيئي ليث العبيدي.

وأعلن، أحمد رعد، أحد المسؤولين في وزارة الزراعة، بتصريحات صحفية مطلع الشهر الماضي، أن “نسبة التلوث كبيرة في الأنهر، بسبب ما يتم صبّه فيها من مياه آسنة أو تصريف مياه المجاري، وكلّما اقتربنا من المدن، زاد التلوّث أكثر وقد يصل إلى 80%”.

لكن محافظ الديوانية، زهير علي الشعلان، يؤكد على أن “مشكلة تلوث المياه لا تقتصر على الديوانية وحدها بل أصبحت حالة عامة في غالبية المحافظات العراقية”، ويشير الى “جدية الإدارة المحلية لانهاء ملف مشروع مجاري الديوانية الكبير، الذي يتضمن تنفيذ محطات لمعالجة المياه والتخلص من ملوثاتها”.

تلوث المياه يهدد صحة المواطنين والتنوع الاحيائي في الأنهر ويدق ناقوس الخطر، فهل ستعمد الحكومات على العمل بالحلول لتحافظ على حياة البشر.

هذا الموضوع تم إعداده بالتعاون مع:

Clingendael Institute

Free Press Unlimited

المصدر