أ.د. فرست مرعي
الشعب الكردي من الشعوب الحية التي تعيش في منطقة الشرق الاوسط، وهم من سكان المنطقة الاصليين، وإن كانت الهجرات الهندو – إيرانية قد أثرت على نمط حياتهم من جوانب عديدة، ليس أقلها اللغة، لذا فإن الكثير من المستشرقين والباحثين الغربيين عدوه من الشعوب الهندو – إيرانية (= الارية)، وبالتالي هو واقع ضمن العائلة الكبيرة للشعوب الهندو – جرمانية أو الهندو – أوروبية.
غالبية الشعب الكردي يدينون بالاسلام على مذهب أهل السنة والجماعة أي حوالي 80%، بينما البقية الاخرى يدينون بمذاهب الشيعة الاثنا عشرية (= الفيليون وبعض الشبك)، والشيعية الاسماعيلية من الكاكائية – أهل الحق – اليارسان، والصارلية، والعلوية. وباليزيدية وهم أصحاب ديانة خاصة، كل تراثهم الديني مكتوب باللغة الكردية، مع بعض المجموعات المسيحية الذين يعدون أنفسهم كرداً.
وبالعودة الى التاريخ يظهر أن جزءاً من العهد الجديد (= الانجيل) قد ترجم لأول مرة من اللغة الإنكليزية الى اللغة الكردية عام 1856م، ونشر بالابجدية الارمنية، خلال عمل الاساليات البروتستانتية الانجيلية الاميركية والبريطانية التي جابت أراضي الدولة العثمانية خلال منتصف القرن التاسع عشر.
وكان للمستشرقين الفرنسيين من أمثال: روجيه ليسكوت(1914-1975م)، والجنرال بيير روندو(1904- 2000م) ورجال الدين المسيحيين من اليسوعيين والدومنيكان من أمثال الدومنيكاني الفرنسي توما بوا (1900-1975م) وغيرهم تأثير على البنية الذهنية للنخبة الكردية المثقفة في سوريا ولبنان وبالاخص الاخوين: كاميران بدرخان وجلادت بدرخان، وفي الواقع فإننا غالباً ما نصادف ممارسات ومعتقدات في كردستان يصعب التوفيق بينها وبين الإسلام التقليدي، فالقوميون الكرد في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين كانوا مفتونين ومتباهين بتلك الانحرافات عن الإسلام (الدين العربي) مفسرين ذلك على أنها تمرد الروح الكردية على السيطرة العربية والتركية، على حد تعبير المستشرق الهولندي ( مارتن فان بيروينسن). لكن هؤلاء القوميون يشكلون أقلية صغيرة، وأتباع الطوائف المهرطقة تتكون فقط من نسبة صغيرة من الكرد. لكن الغالبية الساحقة من الكرد مسلمون والكثيرين منهم يأخذون الدين على محمل الجد. لقد اكتشف محررو مجلة هاوار(= الاخوين جلادت بدرخان وكاميران بدرخان) بأنه ينبغي عليهم أن يغيروا من
نبرتها إذا ما أرادوا أن يجدوا حلقة أكبر من القراء. لذلك وبدءاً من 1941 فصاعداً كان كل عدد يُفتتح بترجمة كردية للقرآن والأحاديث النبوية. والكثير من الأكراد العلمانيين الآخرين، قبل ذلك وبعده، اكتشفوا الشيء ذاته لكي يُحدثوا التأثير بين الأكراد وكان ينبغي عليهم أن يكيّفوا أنفسهم مع الإسلام. ولكن ذلك بالأمر السهل إذ كان معظم هؤلاء القوميين يعتبرون الإسلام كأحد القوى الرئيسية التي تضطهدهم شعبهم. ينظر مارتن فان بروينسن، الدين في كردستان، ترجمة راج آل محمد، موقع مدرات كرد، في 1/6/2015.
وظهر هذا التأثير الجلي واضحاً في محاولة الضغط على النخبة الكردية بترجمة العهد الجديد أو أجزاء منه الى اللغة الكردية، لمحاولة تقريب المفاهيم المسيحية الى الكرد المسلمين، وزعزعو إيمانهم بالاسلام؛ رغم أن غالبيتهم من المسلمين كما هو معروف.
لذلك ترجم الامير الكردي الدكتور كاميران بن أمين عالي بن بدرخان باشا كتاب (أمثال سليمان(= سفر الامثال) من العهد القديم من اللغة الفرنسية الى اللغة الكردية، ونشرت في بيروت مابين سنة 1947 – 1949م، بناءً على توصية جمعية الكتاب المقدس.
ويذكر المستشرق والدومنيكاني الفرنسي توما بوا(1900 – 1975م)، في مقالة له تحت عنوان: (Littérateur Kurds Coup d Eli Suria – لمحة عن الاكراد السوريين) التي نشرها في مجلة المشرق في بيروت باللغة الفرنسية، أن انجيل لوقا ترجم من اللغة الفرنسية الى اللغة الكردية – اللهجة الكرمانجية عام 1953م من قبل الامير كاميران بدرخان، وصدرت الترجمة في بيروت، بناءً على توصية جمعية الكتاب المقدس، وهذا الانجيل المترجم يتكون من 224 صفحة، وتتكون كل صفحة من عمودين، العمود الواقع الى اليمين هو للغة الكردية – اللهجة الكرمانجية وبالاحرف العربية، وعمود اليسار اللغة الفرنسية أو الالمانية وبالاحرف اللاتينية، ولم يذكر اللغة التي ترجم منها، ويبدو أنه لا تخرج عن نطاق اللغتين الالمانية أو الفرنسية.
وهناك اختلاف في عدد صفات انجيل لوقا المترجم الى الكردية، حيث ذكر المستشرق الفرنسي ( توما بوا) بأن عدد صفحات إنجيل لوقا هو (224) صفحة كما مر ذكره آنفاً، بينما يذكرالاكاديمي الكردي ( فرهاد بيربال) بأن عدد صفحات انجيل لوقا المترجم هو ( 208) صفحة، في حين يذكر كاتب كردي آخر( بيوارأدريس ده حلينه وى) أن انجيل لوقا المترجم يتكون من (90 صفحة)، وتم ترجمة (24) اصحاحاً، ويتكون كل اصحاح من عدة أعداد، وأنه كتب باللهجة البوتانية، وهذه لم يتطرق إليها لا المستشرق ( توما بوا) ولا الدكتور ( فرهاد بيربال). لأنهما في نظري ليسوا على دراية كافية باختلاف لهجات الكرمانجية الشمالية بين اللهجات البوتانية والهكارية وغيرها، بعكس الباحث الشاب ( بيوار ئدريس ده حلينه وى) الذي له إطلاع تام بالموضوع، حيث أنه حدد اللهجة الكرمانجية المترجم إليها الانجيل (اللهجة البوتانية حصراً)، أي بعبارة أخرى اللهجة التي كان المترجم ( كاميران بدرخان) يتكلم بها. ينظر: تيروز كه ك ل سه ر زيان وجالاكيين كاميران به
درخان يين ره و شه نبيرى(= ضوء عى نشاطات كاميران بدرخان الثقافية)، كوفارا به يف، ئيكه تيت نفيسه رين كورد، دهوك، هزمارا 53، 2010، له 71 – 72.
كما ترجم الامير بدرخان انجيل يوحنا ( = انجيل جاك) من الفرنسية الى الكردية – اللهجة الكرمانجية ما بين سنة 1953 – 1954م، ولم ينشر لحد الان. فه رهاد بيربال، ئينجيل د ميزوويا ئه ده بياتين كوردىيدا 1857 – 1957 (الانجيل في تاريخ الادب الكردي 1857- 1957)، بيداجونه ى: مه لا محه مه دى كه زنه يى. دهوك، بنكه هى ئاشتى بو به لا فكرنى، 1999ز، له 84.
ويبدو للباحث أن الاختلاف الحاصل في عدد صفات إنجيل لوقا المترجم هو الاختلاف في طبعات الكتاب المختلفة، فقد اطلع الباحث ( بيوار ئدريس ده حلينه وى) على طبعة لوقا المترجم عام (1953م)، بينما يظهر أن الدكتور فرهاد بيربال قد اطلع خلال دراسته في فرنسا على طبعات أحدث للانجيل المترجم.
ومن جانب آخر فقد بدأ النشاط التبشيري (= التنصيري) البروتستانتي – الانجيلي في كردستان العراق بعد حرب الخليج الاولى وتحرير الكويت من الغزو العراقي، وانطلاق الانتفاضة الشعبية التي قادها الشيعة والكرد ضد نظام الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين في شهر آذار/ مارس عام1991م، حيث بدأت المنظات الانسانية الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي بالتواجد في كردستان العراق، لا سيما بعد سحب الحكومة العراقية لاداراتها من منطقة كردستان بحلول نهاية عام1991م. وهكذا بدأت المنظمات بالتواجد اعتباراً من عام1992م.
وبحلول نهاية عام 2000 تأسست كنيسة المسيح الناطقة بالكردية (كورد زمان) في أربيل، وأنشأت لها فروع في محافظات: السيلمانية، دهوك. وتعد هذه أول كنيسة كردية إنجيلية في العراق، يتكون شعارها : من شمس صفراء وصليب يتصاعد خلف سلسلة جبال، ووفقًا لأحد الكرد الذين تحولوا إلى المسيحية، تحول ما يقدر بنحو 500 شاب مسلم كردي إلى المسيحية منذ عام 2006م في جميع أنحاء كردستان العراق، ويبدو أن هذا العدد مبالغ فيه؟.
وقال (كارل مولر) المدير التنفيذي لمجلة للشرق الاوسط وشمال أفريقيا :Biblica” إنها مناسبة تاريخية للغاية، إنجاز رائع …”واستطرد قائلا:”… أن العمل في الترجمة بدأ في خمسينيات القرن التاسع عشر، ولكن تم تأجيله بسبب الحروب وعدم الاستقرار. أعاد فريق الترجمة المبادرة في أوائل التسعينيات، وقال المدير التنفيذي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في بيبليكا: “هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها مثل هذا الشىء”.
وهناك ما يقدر بنحو 15 مليون شخص يتحدثون باللغة الكردية – اللهجة السورانية في العالم. ويعتقد مصور لغات الشرق الأوسط بمكتبة الكونغرس في واشنطن العاصمة أن هذه
هي أول ترجمة كاملة للكتاب المقدس إلى اللغة الكردية – اللهجة السورانية. وقال (مايكل شيت) لفضائية روداو الكردية بالانكليزية:” لم أر سوى أجزاء صغيرة تُترجم إلى اللهجة السورانية قبل ذلك، لقد ترجم العهد الجديد بأكمله إلى اللغة الكردية – اللهجة الكرمانجية في القرن التاسع عشر وتحديداً سنة 1856م بالحروف الأرمنية، مع وجود أخطاء نحوية كبيرة.”
يعيش حوالي 200000 مسيحي في إقليم كردستان، 200 ألف آخرين فروا من العراق إلى بلدان أخرى بعد أن جاء تنظيم داعش، حسب شلومو، وهي منظمة غير حكومية مسيحية يقع مقرها في ضاحية عينكاوه ذات الغالبية المسيحية – الكلدانية الواقعة شمال غرب مدينة أربيل.
وتجدر الاشارة الى أن هناك خمسة طوائف مسيحية أساسية في كردستان العراق: الكلدان، والسريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك، والنسساطرة- أتباع كنيسة المشرق(= الأشوريون)، والأرمن، بالاضافة الى المسيحيين الجدد من أتباع الكنائس البروتستانتية الانجيلية، ويتكلم غالبية مسيحيي العراق باللغة العربية واللغة السريانية التي هي احدى فروع اللغة الآرامية ، بينما يجيد معظم مسيحيي اقليم كردستان من الكلدان والأرمن والآشوريين اللغة الكردية.
وبعد سنوات من العمل، أكمل مترجمين للكتاب المقدس في اقليم كردستان، وأنهوا بنجاح أول نسخة من الكتاب المقدس (= التوراة والانجيل وأعمال الرسل وغيرها)على الاطلاق باللغة الكردية – اللهجة السورانية في نهاية شهر نيسان/ ابريل عام2017م. وعملت جمعية البعثة الكنسية (CMS) عن قرب مع بعض المواطنين المحليين من الكرد ومختلف الجنسيات لإنهاء المشروع بالتعاون مع جمعية الكتاب المقدس العالمية (Biblica). واستلزم العمل الاستقصائي مسودات النصوص وأساليب الكتابة والتحقق من الاسماء ومراجعة شاملة للعهدين القديم والجديد لضمان دقة الترجمة بقدر الامكان. واستغرقت عملية الترجمة لوحدها حوالي 28 عام.
ومع نشر أول نسخة من الكتاب المقدس باللغة الكردية – اللهجة السورانية، تأمل جمعية البعثة الكنسية اشراك حوالي 6 مليون من المتحدثين بهذه اللغة ويتمكنوا من قراءة الكتاب المقدس بلغتهم الام لأول مرة.، في إشارة الى كرد العراق وايران. وقال (باول ثاكستر) من جمعية البعثة الكنسية لوكالة (بريمر نيوز اور):” أنه لم يكن ممكنا ان تنتهي الترجمة الجديدة في وقت أفضل من ذلك”. واستطرد بالقول ” أن امتلاك الكتاب المقدس يرسخ ايمانك ويمكن الناس من الانخراط بطريقة بحيث لا يمكنك ببساطة فعلها من دون وجود الكلمة مكتوبة وبدون وجود القصص مروية لك شفهيا”.
وكشف (ثاكستر) أنه بالرغم من الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في المنطقة والاضطرابات المدنية في العراق والتي اثرت سلباً على المترجمين، إلا أنهم حافظوا على
التزامهم بإنهاء المشروع. وأضاف قائلاً:” لقد تمكن اصدقائنا هناك من القيام بالأمر رغم تغير الظروف، سواءً كان هناك اجواء حرب او سلام، استطاع المترجمون ان يكونوا اوفياء للسكان المحليين، ولذلك استغرق الامر وقتا طويلا ليصبح جاهزا”.
وقال الدكتور (كارل مويلر) الرئيس التنفيذي لجمعية الكتاب المقدس العالمية ان المشروع هو بمثابة (حدث تاريخي) للأكراد، واضاف مويلر للجمهور في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان اثناء حفل اطلاق الكتاب المقدس:” تخيل انك لا تملك الكتاب المقدس بلغتك الام! معظمنا لا يمكننا ذلك لكن هذا كان واقع حال الاكراد لغاية اليوم”.
وبين الدكتور مويلر: ” ان عملية الترجمة هذه هي محصلة سنوات كثيرة من الصلوات وقدر كبير من التضحية من قبل فريق الترجمة، إنها ايضا تذكير بإخلاص الله العظيم. واضاف “ان الله يقوم بأشياء رائعة في كردستان. نصلي لكي يكون الكتاب المقدس هذا بركة ونعمة للكنيسة الكردية، ويساعد في زيادة ايمان المؤمنين الاكراد، وان يستخدمه الله من أجل سحب المزيد من الاكراد ليدخلوا في علاقة مع يسوع المسيح”.
وتجدر الاشارة الى أن الكتاب المقدس المترجم الى الكردية – اللهجة الكرمانجية الجنوبية – اللهجة السورانية قد طبع منه (8000) نسخة في جمهورة كوريا الجنوبية.
وفي السياق نفسه تمكن فريق من جمعية الكتاب المقدس بالتعاون مع بعض الكرد العلمانيين والكرد الذين اعتنقوا المسيحية من ترجمة العهد الجديد (= الانجيل وأعمال الرسل) الى اللغة الكردية – اللهجة الكرمانجية الشمالية – البهدينانية بعد أكثر من عشر سنوات من العمل الشاق والمضني.
ويتكلم أهالي محافظة دهوك وبعض المناطق الكردية التابعة لمحافظتي أربيل والموصل مثل: أقضية ميركه سور والشيخان وسنجار وناحية زمار باللغة الكردية – اللهجة البهدينانية.
وقد جرى بهذه المناسبة إطلاق احتفال رعته جمعية الكتاب المقدس العالمية في المركز الثقافي التابع لجامعة دهوك، في 25/تشرين الثاني/نوفمبر عام2019م حضره السيد (مايكل موليج) رئيس جمعية الكتاب المقدس الدولية ومساعده الاسكتلندي (اسكندر رسول ريت) وعدد من أعضاء المنظات الاجنبية الغربية العاملة في دهوك، ورؤوساء الكنائس الانجيلية في المحافظة، فضلاً عن مدير عام أوقاف محافظة دهوك، ومدير الوقف المسيحي في دهوك، بالاضافة الى شخصيات ثقافية كردية عَلمانية من الليبراليين واليساريين، وبعض الكرد المتحولين الى المسيحية والزرادشتية وغيرها من الديانات السماوية وغير السماوية المتواجدة في إقليم كردستان العراق بصورة رسمية، مع تغطية شاملة من قبل القنوات الفضائية الكردية الرئيسية : رووداو(= الحدث)، وكوردستان 24، ووار(= الأرض).
وقد ذكر رئيس جمعية الكتاب المقدس الدولية (مايكل موليج) في كلمته التي افتتح بها الحفل، أنه بترجمة الانجيل الى اللغة الكردية، فإن الانجيل قد ترجم الى (1501) لغة حول العالم.
وكان غالبية أعضاء الكنائس الانجيلية من الامريكان والأوروبيين يرتدون الزي الكردي الشعبي كدلالة على تعاطفهم مع هذا الشعب، وقام رئيس وأعضاء جمعية الكتاب المقدس والمترجمين الكرد المسلمين المتحولين الى المسيحية بقراءة مقاطع مختارة تدعو الى السلام والتسامح من الانجيل باللغة الكردية كدلالة رمزية؟. وبعد انتهاء الحفل تم توزيع الاناجيل المترجمة الى اللغة الكردية – اللهجة البهدينانية على الحضور. وتجدر الإشارة الى أنه تم طبع (5000) نسخة من الانجيل المترجم الى الكردية – اللهجة البهدينانية في لبنان.