بيروت والذاكرة الملعونة

328

عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي

المكان زمان سائل والزمان مكان متجمد
ابن عربي
-I-
حين سمعتُ خبر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفيروز الكبيرة قبل لقائه المسؤولين، استعدت ما كتبه قبل عقد ونيّف من الزمان عن “شارل مالك الكبير ولبنان الصغير”، ففي زمن الفواجع الكبرى يلجأ الإنسان عادة إلى الرموز الفكرية والثقافية الجامعة للتخفيف من هول الصدمة وحجم المأساة، وهو ما حاول الرئيس الفرنسي استخدامه بذكاء شديد خلال زيارته الثانية بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020.
وبغض النظر عن طبيعة الزيارة السياسية وأهدافها، لكن ذهاب حفيد غورو إلى زيارة فيروز بتوجهه من المطار إلى منزلها مباشرة له أكثر من دلالة ، ففيروز تمثل بهالتها وكبريائها وشموخها وإبداعها وصوتها كل لبنان بتنوّعه وتعدديته وموزائيكه وألوانه وفسيفسائه، وهو ما نقصد به من تعظيم للجوامع واحترام للفوارق .
لقد عرف ماكرون كيف يحرّك مشاعر اللبنانيين، بل العرب أجمع الذين ظلّت عيونهم تتطلّع نحو بيروت الثقافة والصحافة والأدب والكتب والحرية والجمال ومقاهي المثقفين والمنفيين والمتمردين وجامعاتها وكنائسها وجوامعها، حيث التعايش والاجتماع الإنساني الحاضن للمواطنة والاختلاف، فضلاً عن جوار الأضداد أحياناً بين الديني والعلماني والمسلم والمسيحي بطوائفهم المختلفة في هارموني عجيب.
مرّتان خلال العقود الأربعة الماضية شعرت أن يداً غادرة تحاول العبث بذاكرتي البيروتية، تلك التي تكوّنت منذ ستينيات القرن الماضي.
الأولى- يوم وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 4 حزيران (يونيو) العام 1982، حين توغلت الدبابات الإسرائيلية لتحتل العاصمة بيروت ، ويومها كانت المدينة غارقة في حرب أهلية استمرت لنحو 15 عاماً (1975-1989). شعرت وقتها أن جزءًا مني كان قد تحطّم بالحرب وانتزع جزءٌ آخر بالعدوان.
والثانية- يوم وقع انفجار مرفأ بيروت، الذي هزّ المدينة بالصميم فتخلخل ما تبقى منها، فبيروت موشحة بالحزن والهموم وترزح تحت أزمات لا حصر لها: الكهرباء والماء والبنزين والمازوت والنفايات والمصارف وأموال المودعين وانهيار سعر الليرة اللبنانية ووصول نحو 55% من المجتمع اللبناني إلى دون خط الفقر، وزاد الطين بلّة اجتياح وباء كورونا (كوفيد 19) ونقص الاستعدادات والتجهيزات والإمدادات الطبية.
حين تفكر ببيروت فمن الصعب عليك أن تفرّق بين البشر والشجر والحجر ، لأنها مشغولة بطريقة عجيبة فهي مدينة متداخلة ومتفاعلة ومتراكبة وخيوطها مترابطة ونسيجها يصعب فك أسراره، مثل جغرافيتها وتضاريسها وهويّاتها وظلالها وجنونها، إنها اليوم في لحظة مفارقة فإمّا اللون والرائحة والإيقاع والصوت وفيروز وإما الانكفاء والعزلة والقنوط والتآكل.
لكن الركود والخمول والخنوع ليسوا من صفات بيروت التي نعرفها والتي ما إن تكبو حتى تنهض تحت الرماد مثل طائر الفينيق لتحيل الحزن إلى فرح والكدر إلى بهجة والكآبة إلى أمل والظلمة إلى نور، فهي أم الشرائع التي علّمت البشرية أبجديات الحرف وفيها روح التاريخ وحدائق اللغة وعنفوان التمرد.
حين كرّمتني الحركة الثقافية في انطلياس في العام 2017، وكعادتها الطلب من المكرّم منذ أربعة عقود أن يتحدث في حفل التكريم، وهو برعاية رئاسية، عن مشروعه الفكري أو منجزه الثقافي أو دوره الأكاديمي أو الاجتماعي أو مساهماته في الحياة السياسية والوظيفية أو عن كتبه ومؤلفاته ونشاطه، لكنني طلبت من الجهة المنظمة والأستاذين أنطوان سيف وعصام خليفة أن أتحدث عن ذاكرتي وأرخبيلات العشق البيروتية ، وهي جزء من ذاكرة جيل الستينات لمدينة الدلال والغنج والورد وشذا الربيع والياسمين والنور.
إذا كان لكل امرأة رائحتها ولكل بحر لونه ولكل قصيدة نكهتها ولكل مدينة عطرها فبيروت اختلطت فيها الرائحة واللون والنكهة والعطر في هارموني بحيث يمكنك أن تتنفسها وكم راودتني عن نفسي لأفضي بسرّها وسحرها، وأنا أسمع صوتها وأشم رائحة بحرها، الذي اغتسلت بمائه حوريات البحر.
– II –
لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرتي الطّفليةِ المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زواياها بيروت بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير.
هكذا بدأتْ ترتسمُ ملامحُ بيروت الجمال والمدى والتنوّع الثقافي والاجتماعي وكأنّني في فسيفسائيّة تختلطُ وصورة “النجف السعيد” أو ما يكنّى بـ “خدُّ العذراء”، حيث يستلقي الشّعرُ متنفِّساً المدينةَ المحافظةَ التي تآخت مع التمّرد، حتّى تفّجر “الفكرُ المنفتحُ في المجتمع المنغلق” على حدّ تعبير السيد مصطفى جمال الدّين.
كنّا نجدُ في بيروت الستينات كلَّ شيء: المقاهي والكُتُب والملابس والصديقات الجميلات وأغاني الحب والسينمات والمسارح والموسيقى… وكلّ ما له علاقة بالتمدّن والتعايش، حيث شارع الحمرا وساحة الشهداء “البرج” وساحة رياض الصلح وبناية العازارية والروشة وسوق الطويلة وسوق سُرسق وفندق اليلدزلار وفندق نابليون ومقاهي الدولشفيتا والويمبي والمودكا والهورس شو والإكسبرس وستراند والألدورادو والروضة ودبيبو ومسرح قصر البيكاديللي والتياترو الكبير وتياتر بيروت والمسرح الوطني “مسرح شوشو” وسينما روكسي ومتروبول والأمبير و الريفولي والراديو سيتي والأوديون وغيرها…
– III –
وإذا كان الإبحارُ في ما نصبو إليه ومضةً بارقةً سرعان ما تنتهي وقد يبقى شيءٌ من كلّها في ذهنِك أو لا يبقى، حيث تكونُ اليقظةُ قد بدّدت طيفها الخاطف بعد أن تلاشى، لكنّك في حضرة بيروت تصحو مبتدئاً مع مخيّلةٍ جديدة ممتدّة وأنتَ في انخطافٍ موجودٌ، لكأنَّ أنوثة “المدينةِ الإلهة”عادت حلماً يستمرُّ، لطالما عاشَ معي وتغلغلَ في كياني وتنامى مع توجّدي، فقد سكنتني يقظةُ بيروتُ الهاربةُ إلى ليلي حتى قبلَ أن أسكنها، رغم أنّ صدمة الحرب الأهلية (1975-1989) كانت عميقة التأثيرِ وموجعة في نفسي لكنّني بقيتُ على تواصل و بيروت المتّشحة بغيابات كأنّي أشاجيها وأنا: “أرحل عن شوارعها/ وأقولُ مع محمود درويش: ناري لا تموت/ شكراً لبيروت الضّباب/ شكراً لبيروت الخراب/بيروت خيمتنا الأخيرة…”. وقد امتدّت روحي عبوراً إليها حتّى تدفّقت أسوار الدم جاهزةً بيننا حينما قتلوا “امرأة كانت تدعى الحرّية”عشيةَ الحرب الأهلية.
وأستطيع القول إنّني عشتُ المدينة بكلِّ جوارحي لستةِ عقودٍ من الزمان، أي مذ عرفتُها في مطلعِ الستينات من القرن الماضي، وكنتُ أتردّدُ إليها باستمرار بما فيها فترة دراستي في أوروبا في مطلع السبعينات وحتى خلال الحرب الأهلية.
كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ واللاّمألوفِ من الكتب و الصحفِ إلى المغايرِ واللّا تقليدي من الأفلام، فأجدُ متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة اللبنانية، وكان شغفي الصّيفي في ستينات القرن الماضي وأنا أزورُ لبنان أن أجلس في مقهى “الشامات” في بحمدون لأبدأ قراءة الصحفِ اللبنانيةِ الرائدة مثل: “النهار” و”النداء” و”الحياة” و”المحرّر” وغيرها، إضافة إلى عددٍ من المجلاتِ ومن بينها تلك المثيرة للجدل والاستفهام مثل مجلة “حوار” ومجلة “شعر” وغيرها.
وكلّما كنتُ أستعيدُ أجواءَ النقاش والسجال والحوار بخصوص النوافذ الثقافية والأدبية والفكرية والتوجهاتِ اليمينية واليسارية، والماركسية والناصرية، والغربية والشرقية يحضرُني ذاك الحوارُ الذي أثيرَ في أواسط العام 1954 من القرن الماضي حول “مؤتمر بحمدون” الذي دعت إليه “جمعيةُ أصدقاء الشرق الأوسط” (الأمريكية) وكانت الدعوة قد وصلت الشيخ “محمّد حسين كاشف الغطاء” في العراق “النجف” من قبل كارلند إيفانز هوبنكز “نائب رئيس الجمعية” والهدف منه – كما تحدِّد بطاقة الدعوة – دراسة القيم الروحية للديانتين الإسلامية والمسيحية وتحديد موقفهما من الأفكار المادّية الإلحادية، ولكن ” كاشف الغطاء” كان قد اعتذر عن حضور المؤتمر، بل شكّك بنواياه حيثُ أرسلَ جواباً مطوَّلاً بعنوان “المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون”، وكان اليسار العراقي هو من قام بترويج ذلك الخطاب الذي طُبعَ على شكل كرّاس لفضحِ أهداف المؤتمر الذي قيل إنَّ جهاتٍ مخابراتية أمريكية تقف وراءه.

– IV –
وفي بيروت تعرّفتُ على الروائي غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وذلك ما قامت بتأمينه لي قيادةُ الحزب الشيوعي اللبناني، وكنتُ قد قرأتُ له بعضَ كتبهِ ودراساتٍ له في الستينات، أتذكرُ منها: تعريفُه بشعراء المقاومة، وخصوصاً محمود درويش، وسميح القاسم، وعن الأدب الصهيوني، إضافةً إلى روايتهِ الشّهيرة “رجالٌ في الشمس”، وبادرَ بإهدائي روايتَه “أم سعد”، وهي من الكُتبِ التي أعتزُّ بها، وبقيَ معي في براغ، وحين عودتي حملتهُ في حقيبتي اليدوية، ولم أضَعْه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتُها إلى بغداد، وقد تمّت مصادرتُها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنتُ قد أعددْتُها للطبع، من قبل الأجهزة الأمنية العراقية.
استقبلني غسّان كنفاني بابتسامةٍ عريضةٍ في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكّر، وطلبَ من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّنُ بعضَ ما أقوله. لا أتذكّرُ إنْ كان قد نشر شيئاً بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنّه – على ما أذكر جيداً – كان يتمنّى أن تنصبَّ جهودُ الوطنيّين واليساريين لمواجهةِ العدوان الصهيوني والمخطّطات الإمبريالية.
ذكّرني الصّديق صلاح صلاح، حيث تستمرُّ صداقتُنا منذُ عقودٍ من الزمان، أنّه سمع لأوّل مرّة عنّي من غسّان كنفاني، وحتى قبلَ أن نلتقي، إضافة إلى قياداتٍ فلسطينية لاحقاً، حيث جاء اللّقاءُ الأوّل بيننا بعد ذلك بسنوات، لكننا كنّا نعرفُ بعضَنا قبل هذا التاريخ، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.
كمْ حزنتُ لفقدان ذاك المبدعِ اللاّمع وهو في ريعان شبابه وأوجِ عطائه، حيث كان قد استكمل أدواتِه الفنية ونضجت تجرِبتُه، حتّى ترصّد له جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وقامت يدُ الغدر بتفجير سيارته في منطقة الحازمية في 8 تموز (يوليو) العام 1972. رحل ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر، وكانت تلك واحدةً من الصّدماتِ التي صُعقتُ بها، وما عاظَمَ ألمي هو محاولة اغتيال العقلِ الفلسطيني والمثقفِ الفلسطيني والإبداعِ الفلسطيني. والفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل “مبدعين كبار” مثل غسّان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وناجي العلي، وغيرهم.

– V –
لم أكن في ذلك الحين قد اطّلعت على فكر شارل مالك ودوره الرّيادي، خصوصاً في وضع “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” عام 1948 بالتّعاون مع البروفيسور الفرنسي “رينيه كاسان” وتشينغ الصيني الكونفوشيوسي والسيدة “إليانور روزفلت”، ولكنّني حين قرأت مقدّمته “العبقرية” في وقت لاحق تأكدت أنّ فلسفته كانت وراء الصياغة المُحْكمة لتلك “المصكوكة” الدولية، وبعدها كتبتُ عنه مقالةً بعنوان “شارل مالك الكبير ولبنان الصّغير” وحين حضرتُ الاحتفال الخمسيني لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1998) وتجوّلت في قصر”شايو” في ساحة تروكاديرو (باريس)، شعرت أنّ روحَه تخيّمُ على أروقةِ المكانِ النابضِ بتفاصيله. وكنتُ قد خصّصتُ خلال العقود الثلاثة الأخيرة أكثرَ من مبحث لي وأكثر من محاضرة وإضاءة عنه.
وكما يقول جبران:
“لبنان يا أسمى المعالي لم يزلْ / لأُولي القرائحِ مصدرَ الإيحاءِ”
وطن الكفاءات الّذي أنجب كباراً في الفكر والعلم والأدب والفنّ، من صاحب “النبي” وعواصفِ روحهِ الملتحفّةِ بالتمرّدِ والنهوض، إلى رحلات أمين الريحاني المتدفّقة في حبْرهِ الحي، و”سبعون” ميخائيل نعيمة “الفيلسوف البليغ إلى أدب “مي زيادة” ورسائلها الشغوف، و”معضلة اللّغة” التي وضعت “الفيلسوف كمال يوسف الحاج” أمام معضلة القومية، وميشال شيحا المفكّر اللّبناني المتقدّم على عصره، وموسوعية البستاني وبلاغة اليازجي ومورد البعلبكي الأكبر… وكيف ننسى “حسن كامل الصبّاح” الذي حلم بحياكة ليلنا من خيوط الشمس ومايكل دبغي الذي نسج جروحات قلوبنا؟.. أمّا “سيّدة الجلالة” فكانت أنثى لبنان الغنوج حيث رياديّة غسان تويني وكامل مروة وسليم الّلوزي وميشال أبو جودة وطلال سلمان والقائمة مفتوحة ….
ألا تكفي هذه الكوكبةُ التي أسّستْ مع الفكر الفلسفي التنويري المعاصر من موسى وهبة وناصيف نصار وغيرهم، وأسراباً محلّقة من الشعراء المُحدثين أمثال إلياس أبو شبكة والأخطل الصغير وخليل مطران وسعيد عقل وإلياس خوري وأنسي الحاج وجوزيف حرب وطلال حيدر وغيرهم، وعديد من الفقهاء القانونيين وعلماء اجتماع واقتصاد؟
إنّها بيروت تخاطرني وأتماهاها بصوت فيروز الملائكي وتلاحين فكر الأخوين الرحباني الانسيابي الإصلاحي و”ثورة الفلاحين” وأغاريد “نصري شمس الدّين” لأن لبنان “راجع يتعمّر” كما خلّده زكي ناصيف، وتُسائل حنيني مواويل وديع الصافي:
“لبنان يا قطعة سما / اسمك على شفافي صلا”
– VI –
حين انتهت الحرب الأهلية وأُبرمَ اتّفاق الطائف تكرّرت زياراتي لبيروت وعندما قرّرتُ أن أترك لندن لم أفكّرْ أن أستقرَّ في أي مدينة عربية غير بيروت، مع أن علاقتي بدمشق فيها الكثير من الحميمية مثلما هي علاقتي الودّية مع القاهرة. وبغداد التي تسكنني لا زالت بعين العاصفة… إذاً هي بيروت ذاتُ الأوتار الخاصة، وحيثما يشعر المرء بالحريّة فذلك وطنه. وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفان “الوطن هو حيث يكون المرء بخير” وبيروت دائماً تجعلني بخير. إنها مكتوبةٌ بالماء، وياسمينُ كلِّ حبٍّ، هي التي أنجبت “عشتار” الآلهة التي تعمّدت بأحشاء الموج، أمُّ الشرائع هي، وتوأم الزمن ما كتبه ننّوس اليوناني في القرن الخامس الميلادي.
قالت كلمتها بيروتُ، فكان الله فعل كمال… سمائيةُ البحار هاتيك معاصرةُ الأبد، امرأةٌ “كانت تدعى الحرّية”، حتّى “دفعت الجزية عن كلّ الكلمات”، يا ستّ الدّنيا يا بيروت/ يا حيث كتبنا الشِّعر…
بيروت التي جُبلت بالمحن والمعاناة احتضنت اللاجئين والنازحين والطامحين وعشّاق الجمال، هاتِه أشكلَةُ مدينة بفعل أبجدية الخلود تُحاكي ما بعد الوجود وتُحيي الزّمان، تُعمِّد الآلهةَ بتراتيل الحرّية
بيروت “إنّ الدّنيا بعدك ليست تكفينا…”.
الآن عرفنا… أنّ جذورك ضاربة فينا…”.
قال فيها الشاعر أحمد شوقي:
“لبنان والخلـد اختــــراع الله لـم / يـزدن بـأحـسن مــنهمــا ملكـوتـُه
هو ذروة في الحسن غيرُ مرومة / وذرى البراعة والحجى بيروتُه”
“لن أنسى هذا الدفءَ مثل هذه الدقائق تتداخل في وجودنا كاللّحظات الأخيرة بانتظار أول موعد غرامي” حيث أنفاس الشاعر “موريس باريس” الشجية تحيكُ وشيَ الثقافة الفوّاح. وتقاسيم روح “الجواهري” تردّد:
لبنان يا خمري وطيبي / هلاّ لَممْتِ حُطامَ كوبي
هــلاّ عطفتِ لي الصبا / نشـوانَ يرفلُ بالذّنـوبِ

إنها بيروت تلك الذاكرة الملعونة التي تستحقّ كل السّمو والإجلال والخشوع.

نُشرت في مجلة “أفق” مؤسسة الفكر العربي تحت عنوان:
بيروت التي تستحقّ كلّ السموّ والإجلال والخشوع
تشرين الأول (أكتوبر) 2020.

المصدر