بحث عن مظاهرات اكتوبر الفان وتسعة عشرة بداية لمحو المحاصصة والطائفية وتحقيق المطالب المشروعة للمواطنين د.كرار حيدر الموسوي
ماهي الدوافع والسياقات التّي أدّت إلى اندلاع المظاهرات العراقية الأخيرة (أكتوبر 2019)، المطالبة بالإصلاح وإسقاط النظام والقطع مع نظام المحاصصة الطائفي وكيفية تشكّل المشروع الوطني الحديث القائم على دولة المواطنة واحترام القانون، وانتهينا إلى تبيان جملة من العراقيل التي يمكن أن تُشكّل عائقا أمام هذا المشروع.
ولبلوغ جملة من الأهداف أهمّها:
· ـ مقارنة مظاهرات 2019 بالمظاهرات السابقة 2016و2017و2018 ودراسة كيفية تطور الخطاب السياسي العراقي من خطاب يدعو إلى الإصلاح ومحاربة الفساد إلى خطاب يدعو إلى التغيير وإنهاء الطائفية السياسية المتحكّمة في هذا البلد منذ سنة 2003 من خلال بروز جيل جديد من المُحتجّين.
· ـ دراسة امكانية التعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب العراقية وتحوّل المواطن العراقي اليوم من مركزية الهُويّة الطائفية إلى الهُويّة الوطنية الحاضنة لجميع المواطنين بقطع النظر عن توجهاتهم ومذاهبهم وأيديولوجياتهم .
· ـ تناول قضايا تشغل الرأي العام العربي والإسلامي اليوم وهي قضايا وثيقة الصلة بإشكاليتنا، مثل التعصّب والطائفية السياسية والفساد والتي تُعتبر من أبرز العراقيل التّي تمنع قيام أيّ مشروع وطني.
ولمُعالجة هذه القضايا اعتمدنا المنهج التّاريخي والنقدي لدراسة الأفكار وتشكّلها وتطوّرها تاريخيّا، قصد ربط الفكر بالواقع. وتوظيف المنهج المقارني للمقارنة بين دولة المُحاصصة الطائفية الراهنة و دولة المواطنة المنشودة.
وقد اعتمدنا ثلاثة عناصر:
ـ دوافع المظاهرات العراقية:
أـ تدهور الاقتصاد العراقي وارتفاع عجز الميزان التجاري
ب ـ أزمة نظام المحاصصة الطائفي والولاء لإيران
ج ـ فقدان الثقة بالنخبة السياسية
دـ انتشار الفساد وغياب العدالة في توزيع الثروات
ـ المظاهر الدالة على تشكل المشروع الوطني العراقي وبروز جيل جديد من المحتجين:
ـ عوائق هذا المشروع:
بعد 17 سنة على سقوط نظام صدّام حسين لم يستطع العراقيون أن يخرجوا من أزماتهم السياسيّة والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ليجدوا أنفسهم عبيدا للطائفية والمذهبية.
صحيح أنّ قصة العراق مع الطائفية قديمة لكنّها اليوم صارت أكثر استفحالا وخطرا يُهدّد استقرار هذا البلد ويقوّض عمل ُمؤسساته ويسير به نحو الحرب الأهليّة، لقد صارت الطائفية واقعا ملموسا منذ تشكّل مجلس الحُكم الانتقالي على يد بول بريمر، الذّي نظر للعراق على أنه مجموعة طوائف وصنّف مُكوناته على أساس انتماءاتهم الفئوية والدينية وليس من خلال ُرؤيتهم الفكرية والأيديولوجية، هذا ما تجلّى بوُضوح من خلال تركيبة المجلس ليُصبح فيما بعد نموذجا تسير على خُطاه الحُكومات المُتعاقبة.
ومُنذ ذلك الوقت أصبحت المُحاصصة هي المُتحكّمة في تشكيلة الحُكومات العراقية وفي اختيار وزرائها وشكل تحالفاتها، وعلى مدى السنوات الماضية عملت الأحزاب والقوى المشاركة في العملية السياسية على تكريس الطائفية والتخندق ورائها، وصل الأمر ببعض الطوائف إلى الإستقواء بقوى خارجية في مواجهة الطوائف المنافسة لها تزامنا مع غياب مرجعية الدولة ومؤسساتها عن أذهان النخب السياسية، فصارت المرجعيات الدينية والعشائرية والقبلية والعائلية هي من تتحكّم في العملية السياسية وهي من تشكلّ بمفردها ملامح العراق الجديد بعد سقوط نظام صدام حسين، و هذا ما انعكس سلبا على أداء الدولة العراقية و عمل مؤسساتها الثلاث( رئاسة الجمهورية و رئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب).
وبعد عدّة دورات انتخابية ظلّ العراق حبيسا لأزماته المتتالية بسبب التركيبة المشوّهة التي تتحكم بالتوافقات والتحالفات السياسية، الأمر الذي عطّل عملية الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية الحديثة.
ومع تدهور الأوضاع، شهدت العراق منذ الأوّل من أكتوبر الماضي احتجاجات شعبية واسعة النطاق على تردّي الخدمات الأساسية وتفشي الفساد والبطالة والمحسوبية والطائفية ورفضا للتدخّل الإيراني المتكرّر في شؤون العراق الداخلية، وتنديدا بسياسة التعيينات وتجاوزا لنظام المحاصصة الطائفي.وتتميز هذه التحركات الاحتجاجية بطابعها العفوي والتلقائي وبأنّها احتجاجات عابرة للطوائف والمناطق والفئات والطبقات الاجتماعية.
لهذا، نلاحظ اليوم ومن خلال هذه المظاهر الاحتجاجية المتكرّرة في العراق ولادة تيارات سياسية عابرة للطائفية والمذهبية نحو دولة المواطنة، حيث بات من الضروري أن تكون للمشهد السياسي العراقي الحالي قوى وطنيّة تحمل فكرا جديدا تسعى من خلاله إلى إعادة الثقة بين المواطن والنظام الدولتي من جهة، ومن جهة أخرى تحصين العراق من مشاريع التفتيت والانقسامات التي تتهدّده.
فهل تكون المظاهرات العراقية 2019 بداية تحقق المشروع الوطني دولة المواطنة الدستورية؟
ما هي المظاهر الدالة على هذا المشروع الوطني الجديد؟ وماهي عوائقه؟
ـ دوافع المظاهرات العراقية
لم تأت المُظاهرات العراقية سنة 2019 من فراغ، كما لا يمكن اعتبارها وليدة اللحظة أو أنها تعود إلى ظروف قريبة، بل هي نتيجة تراكمات لستة عشر سنة من سياسات الحكومات المتعاقبة بدءا من حكومة ابراهيم الجعفري مرورا بإياد علاوي ونوري المالكي وحيدر العبادي وصولا إلى حكومة عادل عبد المهدي.
تأتي هذه المظاهرات بعد أحداث عاصفة شهدتها الدولة العراقية خلال الأشهر الماضية في سياق مدّ وجزر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران خاصة بعد انسحاب الجانب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، تزامنا مع انقسامات حادة داخل الكتل السياسية العراقية، أبرزها الانقسام الحاصل في الكتلة الشيعية عمادها حزب الدعوة الإسلامية بين تيار حيدر العبادي المرتبط بالمشاريع الأمريكية وتيار نوري المالكي المعروف بولائه المطلق لطهران، والخلافات المتزايدة بين قيس الخزعلي قائد عصائب أهل الحق ومُقتدى الصدر زعيم التّيار الصدري.
كما جاءت هذه المُظاهرات كردّة فعل على محدودية المُكوّنات السُنّية والكُردية ودورهما التكميلي في العملية السياسية العراقية في ظلّ نظام يقوم على المُحاصصة الطائفية، حيث تعيش السّنة أزمة تتزايد عاما بعد عام منذ سقوط نظام صدام حسين وصولا إلى الدّمار الذي لحق المُحافظات السُنّية خلال الحرب مع داعش، وانتقام مليشيا الحشد الشعبي وتزايد نفوذها مع ضعف سلطة الحكومة المركزية في التعامل مع الجماعات المسلحة الخارجة على سلطة الدولة وعدم الإيفاء بوعودها، كما جاءت هذه الاحتجاجات بعد فشل استفتاء استقلال إقليم كردستان عن الإدارة المركزية العراقية وما خلّفه من انقسامات حادة بين أكبر الأحزاب الكُردية، وعدم تسليم إقليم كُردستان حصّته من النفط إلى الحكومة الاتّحادية.
إنّ المُتابع للمشهد السياسي العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين يلاحظ وجود طابع ديناميكي تصاعدي للمظاهر الاحتجاجية في العراق، فالمظاهرات السابقة تتميّز بعدم التنظيم وببساطة المطالب المرفوعة حيث أنها لم تكن تدعو إلى بناء دولة مواطنيه تتجاوز أفق الطائفية ولم تكن تدعو إلى تغيير النظام، أما المظاهرات الأخيرة 2019 فتُعتبر الأوسع انتشار والأكثر دموية والأكبر من حيث المطالب المرفوعة، وفي هذا السياق أكّدت المفوضية العراقية لحقوق الإنسان أن حصيلة ضحايا التظاهرات الأخيرة التي تشهدها العراق تتجاوز 400 قتيل وأكثر من 7000 جريح من المتظاهرين والقوات الأمنية.وقد رفعت شعار إسقاط النظام ومحاسبة المسئولين، وكشفت عن عدم ثقة المواطن العراقي اليوم بالنخبة السياسية الحاكمة، كما دعت هذه المظاهرات إلى الحدّ من النفوذ الإيراني المطلق في السياسة العراقية، لكن اللاّفت في هذه الاحتجاجات أنها خرجت عن الخطوط الطائفية التي كانت قدر العراق طيلة عقود من الزمن، ورُفع فيها فقط ولأول مرّة العلم العراقي بعيدا عن ألوان الأحزاب والطوائف في مشهد وطني يبيّن مدى تمسّك العراقي بالهُويّة الوطنية الجامعة ورفضه لسياسة التخندق الطائفي الذي ساهم في تفتيت النسيج ألدولتي، أيضاً تتميز هذه الاحتجاجات بأنها غير مدعومة من أي تنظيم سياسي ولا توجد لها قيادة أو تنظيم حزبي.
أـ تدهور الاقتصاد العراقي وارتفاع العجز التجاري:
لقد أدرك أخيرا الشعب العراقي أهميّة الإصلاح والتغيير والقطع مع المنظومة السياسية السائدة منظومة الفساد والزبونية والمحسوبية والولاءات الخارجية، حيث نفذ صبر المواطن اليوم على دولة فاشلة بكل المقاييس بلا أي استثمارات في قطاعات الصحة والتعليم والاقتصاد والبنية التحتية والخدمات العامة وبلا أمن ولا أمان، لذلك فإنّ الاحتجاجات العراقية الأخيرة طبيعية ومُنتظرة، ومُعبّرة عن آمال وتطلّعات الجماهير العريضة الراغبة في التغيير القطعي والنهائي مع الماضي الأسود الذي خلّفته الفُرقة والتشتّت، “واعتبر عماد الشمّري (رئيس مركز التفكير السياسي)في حديثه للجزيرة نت أنّ عامل الاقتصاد يتقدّم الأسباب، حيث تعيش البلاد في تدن في المستوى المعيشي جراء ارتفاع البطالة وغياب الخدمات وتردّي البنية التحتية، من جهته اعتبر المدير التنفيذي لشركة نيريج الاستقصائية سامان نوح أنّ الوضع الاقتصادي أحد دوافع المظاهرات مع بلوغ مُعدل البطالة 30 بالمائة بين الشباب، إلى جانب وصول 22 بالمائة دون حدّ الفقر مع فُقدان جيل كامل لفرص العمل)
ويعاني الاقتصاد العراقي من مشكلات كثيرة، كانعدام الصناعة وضُعف البنية التحتية والاستثمارات الخارجية وضُعف أداء القطاع الزراعي والتجاري وتفاقم المشكلات الأمنية، “وقد خلقت النفقات المتضخمة أكبر عجز في المُوازنة، إذ بلغت هذا العام 23 مليار دولار، ويتوقّع أن تزيد عن 30 مليار دولار بحلول عام 2020، بحسب اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي)
ب ـ أزمة نظام المُحاصصة الطائفي والولاء لإيران:
تمثل أحد أهم عناوين احتجاجات العراق في تعرية الفشل البنيوي لنظام المحاصصة الطائفي باعتباره نظاما ريعيّا يتم فيه اقتسام السُلطة وإدارة البلاد وتوزيع الثروات والاستئثار بها وفق مصالح ضيقة لا تأخذ بعين الاعتبار معيار الكفاءة ولا توفر الشروط اللازمة في التعيينات.
ويعيش العراق منذ سنة 2003 حالة من الشلل السياسي المُستمر ومن الضعف والتفكك نتيجة هذه الصراعات القائمة على اقتسام الموارد والسلطة مما حال دون تطبيق أية إصلاحات.
ففي غياب سلطة الدولة العراقية تتحوّل الروابط القومية والوطنية إلى وشائج تخدم مصلحة العشائر والطوائف، وتتحوّل المنافسة حول تصورات عامة لمصلحة الوطن إلى تنافس حول مصالح جماعات ضيقة، وتتحوّل معها هذه الطوائف إلى جماعات ذات وظيفة سياسية تطمح للمحاصصة وتعمل من أجلها والأهمّ من ذلك الصراع على السلطة أو الحظوة لديها، كما تسعى إلى تفتيت فكرة الوحدة والتجانس الاجتماعي في علاقة المواطن بالمواطن وعلاقته بالدولة،”وأما علاقة الطائفة بالدولة، وببقية الطوائف في المجتمع، فتظهر في الصراع من أجل حصة أكبر من حصة الدولة ترجمة لوزن ديمغرافي، أو لقُوّة اقتصادية وثقافية، أو تعويضا عن غُبن تاريخي أو غير ذلك. وحين يستخدم التعويض عن الغبن التاريخي أداة لتحصيل امتيازات (وليس لتحصيل حقوق متساوية) أو مبررا للتحالف مع قوى أجنبية (وهذا نوع من الامتيازات)، تصبح كتابة التاريخ من هذه الزاوية مسألة مصالح سياسية وميول أيديولوجية وضرورات ترسيخ الهوية. الأمر باختصار مسألة خطابية لدواع عملية أو سياسية.)
وتنتج في المقابل فكرة المحاصصة للدفاع عن حقوق الطائفة كجزء من الدولة و لذلك لا يحصل تنافس بل تصارع حول الحصص وكيفية اقتسام الدولة، فمثلا رغم أن الدستور العراقي يقوم في مبادئه الأساسية على ضرورة إلغاء الطائفية السياسية إلا أنه يعيد إنتاجها بطريقة غير مباشرة من خلال اعتماده آلية الديمقراطية التوافقية، حيث مأسست الدولة العراقية المحاصصة الحزبية في بناء أجهزتها فخصّت الطائفة الكردية بمنصب رئاسة الجمهورية و خصّت الطائفة السنية بمنصب رئاسة مجلس النواب و الطائفة الشيعية بمنصب رئاسة الوزراء، وأصبح الوطن بذلك نظاما إقطاعيا طائفيا بامتياز، وأصبحت معه العملية السياسية رهينة للتحالفات والولاءات الطائفية بدل المصلحة الوطنية.
ولا يمكننا هنا التغاضي عن دموية الخلافات السياسية بين مُختلف مكونات المشهد السياسي في العراق، فكلّما زادت حدّة الخلافات بين الأحزاب والحركات والمليشيات التابعة لها ارتفعت وتيرة العنف الطائفي الذي يُستخدم في تجييش الشارع وفي الضغط من أجل تحصيل مصالح وامتيازات سياسية، يُقابلها محدودية دور الدولة وضعف سلطتها وعجزها عن فرض سيطرتها على الأوضاع، والتي لم تستطع نزع سلاح المليشيات والجماعات الطائفية والإرهابية المتحكمة في أزمة العنف المتصاعدة ولا حتى في دمجها ضمن جيشها النظامي.
وتتزايد الوتيرة الطائفية أكثر من خلال ممارسات الأجهزة الأمنية (الشرطة الاتحادية) التي تقوم بحملة اعتقالات عشوائية وانتزاع الاعترافات بالتعذيب والسجن دون الحصول على إذن قضائي أو توفر أدنى شروط المُحاكمة العادلة، مع تعاظم سلطة المرجعيّات الدّينية التي تقوم بإصدار فتاوى ُتبيح إراقة دماء أبناء الطوائف الأخرى واستحلال أموالهم وتجريم التعامل معهم وتكفيرهم أيضا.
“هذا إضافة إلى التدخلات الإقليمية المُؤثرة في مشهد الصراع، إذ يُعدُّ التدخل الإقليمي في الشؤون العراقية عنصرا أساسيا في الاختلافات الطائفية العراقية، فإيران مثلا هي الداعم الأول للأحزاب والجماعات والميليشيات المُسلّحة المرتبطة بها أيديولوجيا وهي الفاعل الأبرز في أحداث العنف، فقد اُتهمت إيران بارتكاب مجازر جماعية في العديد من المناطق ذات الاختلاط السكاني (…) ولا مريّة في أن هذه الأسباب وغيرها قد أدّت إلى انتشار العنف الطائفي في العراق وتغول الطائفية وتوسّعها).
ج ـ فقدان الثقة بالنخبة السياسية:
اندلعت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة بمشاركة جميع الأطياف العراقية (كُردية، ُسنّية، شيعيّة، مسيحيّة….) للتعبير عن سخطها على كامل الطبقة السياسية سوى تلك الموجودة في الحكم أو في المعارضة، تجلّى ذلك بوضوح من خلال طابعها العفوي ومن غياب قيادات حزبية تُأطّرها.
وقد رفع المُحتجّون منذ اليوم الأوّل شعار “لا مُقتدى ولا هادي”مُندّدين بمساعي زعيمي أكبر كُتلتين في البرلمان (كتلة الفتح وسائرون)ـ وهما رجل الدين الشّيعي مُقتدى الصدر وهادي العامري ـ في استغلال الاحتجاجات خدمة لمصالحهما السياسيّة الضيّقة.
يقول مثنى عبد الله في القدس العربي اللندنيّة “انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة المتظاهرين للمطالبة بحق لا ينصّ عليه ميثاق حقوق الإنسان، بهذا الشكل المباشر الصريح: “نُريد وطن”. وهي خُطوة أذهلت كل أحزاب العملية السياسية من الإسلاميّة إلى العلمانيّة، ومن القوميّة إلى الشيوعيّة، والتي تاجرت جميعا بتحالفاتها من انتخاب ديمقراطي إلى آخر، تحت شعارات ظاهرها محاربة الفساد والمُحاصصة، وباطنها معا من أجل المُحاصصة والفساد. لم تعدّ المظاهرات مرهونة بخدعة نحن ضدّ الفساد، نحن نزهاء، نحن مع سيادة العراق، نحن وطنيون).
ويضيف الكاتب “أنّ التاريخ يُعلّمنا أنّ عُمر مغازلة الأوهام وشُعبويّة الخطاب السياسي ونشر سياسة القبول بالأمر الواقع، وتخويف المُطالبين بتغييره بالفوضى، خُدعة قد تنطلي على الشعوب لفترة إلا أنها لن تطول. وخُدعة الإصلاح بعد مرور 16 عاما من فقدان السيادة الوطنية وبؤس الحياة اليومية، والمشاريع الوهميّة، لم تعد تنطلي على أحد مهما حاول الساسة تعليبها بشكل جذّاب)
دـ انتشار الفساد وغياب العدالة في توزيع الثروات:
تُعاني المؤسّسات والإدارات العراقية خاصة الحُكومية من تفشّي ظاهرة الفساد بها منذ سنوات طويلة، حيث تُصنّف منظمة الشفافية العالمية العراق من بين أكثر الدول فساداً.
ولم تكن مظاهرات أكتوبر 2019 الأولى من نوعها المُندّدة بالفساد في العراق، فقد شهدت مدينة البصرة خلال سنة 2018 مظاهرات مشابهة ندّدت بسوء الخدمات العامّة والفساد وطالبت بفرص عمل وإجراء إصلاحات على الأجهزة الحكومية، وبتوزيع عادل للماء والكهرباء وإيرادات النفط على كافة المحافظات دون تمييز.فرغم غنى العراق بالثروات الطبيعيّة إلاّ أنّ كثيرا من العراقيين يرزحون تحت خطّ الفقر.
وما يُثير دهشتنا أكثر أنّ الموارد النفطيّة للعراق تُشكّل 89 بالمائة من ميزانيته وتُمثّل 99 بالمائة من صادراته لكنّها تُؤمّن فقط 1 بالمائة من الوظائف في العمالة الوطنية وفق بيان وزارة العمل والشُؤون الاجتماعية. “ووفق تقرير مُطوّل لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى نشر قبل شهر، فقد قدّرت إحدى الدراسات العراقية أنّ الفساد المالي يستنزف نحو 25 بالمائة من المال العام. وتتّفق المصادر الدولية على أنّ سجل الفساد في العراق قد ازداد سوءا في العقود الماضية، إذ صنّفت مُنظّمة الشفافية الدولية العراق في المرتبة 117 من أصل 133 دولة عام 2003، قبل أن يتقهقر لاحقا إلى المرتبة 169 من بين 180 دولة).
ـ المظاهر الدالة على تشكّل المشروع الوطني العراقي وبُروز جيل جديد من المُحتجين:
إنّ قيام أي مشروع سياسي يتطلّب توفر أُسس وطنيّة سليمة ومتينة يرتكز عليها، والتجربة السياسية في العراق تحتاج إلى عملية بناء المُجتمع الديمقراطي المدني ولا يمكن النهوض بمثل هكذا مجتمع بمعزل عن المواطنة وتعزيز دورها في عملية بناء المجتمع والدولة، ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا أن هناك مشروعا في طور التشكّل يمكن أن يُؤسّس لعراق جديد بلا فساد ولا محاصصة طائفية، وقد لمسنا بداية تشكّله في احتجاجات 2015 التي ندّدت بالفساد والمحسوبية والموالاة لإيران ولسلطة الولي الفقيه، حيث رفع المُحتجّون آنذاك لأول مرّة شعار” إيران برّه برّه بغداد حُرّة حُرّة“.
وكشفت المظاهرات آنذاك عن عدم ارتياح المواطن العراقي لأداء الحكومات المتعاقبة منذ الغزو الأمريكي، فقد هرب من نظام ديكتاتوري قمعي يُصادر الحقوق والحريّات ليجد نفسه تحت براثن الطائفية والمذهبية بسبب سياسات التنميط الطائفي التّي اعتمدتها المُؤسّسات والمرجعيات الشيعية، سياسات التنميط هذه كشفت عن عديد المشاكل أوّلها ضُعف الدولة في تطبيق القانون على جميع مواطنيها وثانيها مُشكلة الهُويّات السياسية والثقافية في علاقتها بالنظام الدولتي وثالثها مُشكلة الاندماج السياسي والاجتماعي بين جميع مكونات الشعب العراقي.
“من هنا فإنّ التنوّع الاجتماعي في العراق من عرب وكُرد وتُركمان لا يمكن أن يتوحّد في هُويّة وطنية عراقية إلاّ من خلال الدعوة إلى مبدأ المُواطنة، فما هي المُواطنة؟ يُمكن تعريف المواطنة بأنها الهُويّة المُشتركة التّي تعمل على اندماج جماعات قد تكون مُتباعدة أصلا وتوفّر لهم مصدرا لوحدة طبيعية، فهي علاقة تتجاوز روابط الدمّ والقرابة إلى الاهتمام بالتكوين السياسي للجماعة وتناقضاته أي أنّها تجعل السياسة موضوعا لمشاركة المواطنين في تقرير مصيرهم).
وتدعّم على هذه الأرضيّة المشروع الوطني العراقي الجديد سنة 2016 بعد تظاهرات شعبية حاشدة ضدّ الفساد والمحسوبية وتدنّي الخدمات العامة وتفشي الطائفية والكراهية في المجتمع، احتجاجات وحّدت الجميع تحت شعار” هذا الوطن ما نبيعه عراق سُنّة وشيعة“.
وهو مشروع لم تعرفه الساحة السياسة العراقية من قبل، مشروع يظمّ قوى شيعية يرأسها مُقتدى الصدر مع الحزب الشيوعي برئاسة رائد فهمي وقُوى سُنّية وأخرى مُستقلة.مشروع “يستحضر الشق الثاني من الديمقراطية وهو الجانب الاجتماعي القائم على أسس المواطنة وبناء الوعي ومحاولة تخليص العقل العراقي من تشوّهات الماضي من جهة ومن جهة ثانية محاولة لم شمل القوى الديمقراطية التي أصابها التشتت في حقبة النظام البائد بحكم السياسية القمعية السائدة آنذاك، وما حلّ بها من هجرة ثانية بعد عام 2003 بسبب الأوضاع الأمنية، ومن تهميش طال الكثير من المفكّرين و الباحثين بسبب نظام المُحاصصة الذّي تجاهل الكفاءات والخبرات وجنح للحزبية والفئوية والطائفية في أشغالها).
وقد أدّى التهديد الأمني الذّي مثّله تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على الموصل في تغييب القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وفي التخفيف من وتيرة الاحتجاجات، لكن بعد هزيمة التنظيم عادت هذه القضايا من جديد إلى الواجهة وتطوّرت معها مطالب المحتجين”وهو ما ظهر في احتجاجات البصرة خريف 2018 التّي شهدت مؤشرات على تبلور جيل جديد من المُحتجّين. ورغم أنّ التظاهرات في البصرة ركّزت مثل سابقاتها في عموم العراق على فشل الإدارة والتنمية ونقص الخدمات والفساد، فإنّها تجاوزتها لجهة تعبيرها عن مطالب عامّة الناس بعيدا عن أجندات القُوى والأحزاب السياسية(….) كما تعرضت لإيران وحمّلتها مسؤولية التدخّل في شُؤون العراق ودعم الفصائل المُسلّحة التّي باتت جزءا من البرلمان والحُكومة وأجهزة الأمن. وقدّ هاجمت جُموع المُحتجّين مقرّات هذه الأحزاب والفصائل وأحرقتها وأزالت رموزا وملصقات مُؤيّدة لمُرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، وصولا إلى مُهاجمة قنصلية طهران في البصرة)
لذلك، يٌمكن أنّ نعتبر احتجاجات البصرة مُنعرجا مُهمّا في عمليّة تأسيس المشروع العراقي الحديث الذّي تجسّد بظهور جيل شبابي جديد من الفئة العُمرية (من 16 إلى 30 عاما) “الذّين يتّسمون بضعف ولائهم للمنظومة الطائفية والعشائرية وعدم درايتهم بالصراع السياسي الذّي كان سائدا في عهد حزب البعث ونظام صدّام حسين، أو اهتمامهم به فضلا عنّ أنّهم وُلدوا في فترة الانفتاح الكبير في عالم المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعي الذّي يجعلهم أكثر تأثرا بالتحوّلات العالمية وتعاملا مع اللّغات والثقافات الأخرى).
تجاوز المشروع الوطني العراقي مفهوم الرعيّة أو الساكن في بلد نحو مفهوم أعمق وأشمل هو سيادة الشعب، حيث يدعو أصحاب هذا المشروع إلى ضرورة الانخراط في المواطنة الحديثة القائمة على العلاقة الحقوقية بين الأفراد والدولة يتمتع بموجبها المواطن بالحماية بقطع النظر عن توجّهاته السياسيّة والمذهبية، فالمُواطنة بكلّ بساطة هي مجموعة من الحقوق والممارسات المعبّرة عن البعد الجماعي يتخلّلها إحساس ووعي عام بجُملة من الخصائص المُشتركة الجامعة لكلّ المواطنين أفرادا وطوائف وأقلّيات، حتّى وإن تباينت فيما بينهم لغة أو عقيدة ولون فإنّهم يتقاسمون مجموعة من الأصول متمثّلة في القوانين يستلهمون منها وحدتهم وتساويهم.
استطاعت مظاهرات 2019 أن تُوحّد الشعب العراقي بمختلف أطيافه وأن تُشعرهم بقضيتهم الأمّ وأن تجعلهم صفّا واحدا في مقاومة الفساد والطائفية والمحسوبية التّي نخرت المجتمع، توحّد العراقيون كم لم يتوحّدوا من قبل لأنّ احساسهم وانتمائهم الوطني العابر للأفراد نحو الكيان العام فاق انتمائهم القومي أو الدّيني، من خلال رفعهم لشعار “نريد الوطن” في مواجهتهم للساسة والقوى الأمنية .وبناء على ذلك يسعى المواطن العراقي اليوم إلى أن يكون مشاركا في العملية السياسية ومراقبا لأداء حكومته بل ومحاسبا لها عبر نوابه في البرلمان، “وهذه عينها المواطنة التّي تُشكّل انتقالا من الشخص والرعية التابع والمنفذ المُطيع إلى الإنسان المشارك والمساهم في صنع الحياة المجتمعية بكل تعبيراتها وقد شكّلت قطيعة مع القرون الوسطى في أنحاء المعمورة بالانتقال من الحقّ الإلهي إلى حقّ المواطن، ومن المنظومة السياسية القائمة على الأقوى إلى منظومة تعتمد الاختيار الحرّ والانتماء المشترك لمجتمع مدني
انتفض العراقيون خاصة في منطقة الهلال الشيعي ومواقع نفوذ إيران التاريخية والمذهبية في العراق من البصرة إلى كربلاء وصولا إلى النجف ضدّ المرشد الإيراني والنخبة الإيرانية وأذرعها الدينية والميليشياتية، هذه الاحتجاجات المتكّررة كلّ سنة في بنية المجتمعات والحواضن الشيعية الكبرى تدل على تآكل بنى التقليد وعلى تغييرات جوهرية آخذة في التطوّر في بنية النسيج الشيعي تجاه ولاية الفقيه وسياسات المرشد، إذ لم تنحصر في مكان واحد حتّى نقول أنّ الخلاف زماني ومكاني بل اتّسعت رُقعتها لتشمل مواقع نفوذ المرشد في الداخل الإيراني وفي الهلال الشيعي المُمتدّ من العراق إلى لبنان.
وقد أحيت الانتفاضة العراقية الخلاف الفقهي الكامن داخل المرجعيات الشيعية بين “مدرسة النجف” و”مدرسة قم”، فالمرجعية العليا في النجف ويُمثلها المرجع الديني السيستاني لا تؤمن بولاية الفقيه السياسية العابرة للحدود والأوطان وترفض التدخّل الإيراني في الشؤون الداخلية للعراق التّي تعتبرها شأن داخلي خاص، كما تقف إلى جانب المتظاهرين وحقوقهم المشروعة المنادية بالإصلاح والتغيير في بنية نظام المحاصصة الطائفي. نذكر منهم عبد المهدي الكربلائي ممثل السيستاني الذي حمّل مسؤولية الأزمة إلى الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية وطالب بتحقيقات نزيهة وعادلة، كما طالبها بمكافحة الفساد وإلغاء امتيازات كبار المسؤولين وقصر السلاح بيد الدولة وسنّ قانون انتخابي جديد والتصدّي للتدخلات الخارجية، والشيخ آية الله النجفي، وهناك رجال دين شيعة مستقلين غير تابعين لمرجعية النجف ساندوا التظاهرات وشاركوا فيها على غرار الشيخ محمد علي اليعقوبي الذّي أكّد على أنّ المظاهرات محل إجماع وطني، وأكدّ أيضا على ضرورة استعادة الهوية الوطنية التي سلبها الطائفيون.
ومن رجال الدّين الإصلاحييّن الذين ساندوا الاحتجاجات نذكر الشيخ ميثاق العُسر الذي دافع عن حق التظاهر وانتقد ردود الفعل الإيرانية، ولا ننس الشيخ كمال الحيدري الذّي طالب بإقالة الحكومة ومحاربة الفساد، والشيخ محمد حسين الأمين الذي قال في إحدى خطبه “بأن الدولة المدنية باتت مطلبا شعبيا للجميع”، والشيخ صبحي الطفيلي الذي هاجم المرشد الإيراني واتّهمه بقمع الشعبين اللبناني والعراقي واتّهم إيران بتخريب العراق، والمرجع تقي المدرسي الذّي طالب رجال الدّين بتوجيه الحكومة والوقوف مع المتظاهرين. ولا ننس هنا التيّارات الشيعية البارزة التّي ساندت الاحتجاجات منذ يومها الأّول على غرار التياري الشيرازي والصدري.
عكس النخبة الإيرانية التّي تؤمن بولاية الفقيه ومركزيتها وامتدادها لتشمل كافة الشّيعة بل والمسلمين في العالم كلّه وليس داخل الحدود الإيرانية فقط، وهيمنة مرجعية المرشد الأعلى الإيراني على باقي المرجعيات الفقهية الشيعية الأخرى، “هذا الاعتقاد الجازم لدى النخب الإيرانية الولائية جعلها تنظر إلى الشيعة العراقيين واللبنانيين والجماعات الشيعية المحلية كرعايا للولي الفقيه، وتتعامل معهم بنفس منطق التعامل مع المجتمع الإيراني على مستوى الوصاية والولاية، فالاقتصاد وتحسين معيشة المواطنين أمر ثانوي في النظرية السياسية لدى تلك النخب، في حين أنّ الثورة والهيمنة والتطييف تأتي كمرحلة أولى في فكر هؤلاء)
وقد اتخذت إيران موقفا معاديا للانتفاضة العراقية ورأت فيها تآمرا وعمالة وأنها مُموّلة من قوى دولية وإقليمية لإضعاف جبهة المقاومة التي ترعاها في المنطقة عبر أذرعها المُسلّحة (في اليمن والعراق وسوريا ولبنان).
كشفت المُظاهرات العراقية الأخيرة عن أزمة عميقة داخل البيت الشيعي وكشفت أيضا عن مواجهة شيعية عربيةـ إيرانية، فخطاب الثورة الإسلامية لم يعد يُغري الشعوب العربية بما يتضمّنه من مفارقة عجيبة، إذ ترفع إيران شعار الثورة وتقمع ثورتهم، وترفع شعار “هيهات منا الذلّة” وتذلّهم وتذيقهم مرارة التعذيب والاعتقال. ازدواجية الخطاب الإيراني وتوظيفه للدين واستغلاله للمذهب جعلت الفئات العريضة من الشيعة تنفر من نظام دولة الفقه الإسلامية وتنبذ المُحاصصة والطائفية، لتنشد بناء دولة مدنية مواطنية حديثة يتمتّع فيها المواطنين بنفس الحقوق والواجبات تحت إطار قانوني دستوري يُساوي بينهم ويحميهم ويُعاملهم كمواطنين لا كرعايا.
“وبغضّ النظر عمّا ستؤول إليه أحداث انتفاضتي العراق ولبنان فإن الإيرانيين خسروا جزءا كبيرا من هيبتهم المذهبية، إذ لم تتوقّع الجماعة الشيعية أن يتوجّه السلاح الإيراني صوب رؤوسها في يوم من الأيام، وإنّ تلك الهشاشة فيما ظنته إيران هلالا شيعيا مواليا لها، آخذة في التمدد لا محالة بفعل الأجيال الجديدة التي لا يروقها خطابات الأيديولوجيا والإسلام السياسي بقدر ما تريد حياة كريمة على الأرض)
ـ عوائق هذا المشروع:
إنّ أمراض ومعوقات الديمقراطية تتأتّى من وجود أزمات الانتقال من الاستبداد والشمولية إلى الديمقراطية، توتّرات داخلية وتحدّيات خارجية تُحارب هذا الانتقال الحرّ خصوصا من أنظمة الدول المجاورة للعراق، إذ ليس من البساطة تشكيل حكومة ائتلافية متناسقة ومتكاملة تُعبّر عن تطلعات جميع المكونات السياسية، فالتقاطع السياسي والتنافس الحزبي والمصالح الضيّقة ستطغى على المصالح العامة وسينجرّ عنها انقطاعات طويلة وعراقيل لا نهاية لها في عمليّة التحوّل الديمقراطي.
“لقد أوضح روزنغالون أمراض الديمقراطية كنتاج عن توتراتها الداخلية، فأوّل هذه الأمراض يتعلق بالصدام بين الجانب الإجرائي والجانب القيمي، وهنا ستواجه الديمقراطية مخاطر الارجاع وهو استقواء الأنظمة الأوتوقراطية المسقطة والمُغيرة من جديد، إنه تصادم القيم الديمقراطية مع القيم الأبوية والجماعة وقيم الوصاية المطلقة، وهذا يؤدي إلى الانحراف في الديمقراطية نتيجة التصادم بين القيم التمثيلية وإجراءات إعادة إنتاج البنية التسلطية والاستبدادية وهذا هو المرض الأوّل للديمقراطية الذي لا بُدّ من استئصاله.)
أمّا الوجه الثاني لمرض الديمقراطية فيتعلّق بالبُنى المؤسّسة للعملية للديمقراطية التّي من دونها لا تتمّ عملية الانتقال الديمقراطي ولا تتحقّق، وكُلّنا نعرف أنّ المرحلة الانتقالية تحتاج إلى وقت طويل وإلى توازنات كبيرة وهي التحدّي الأكبر لمشروع التحديث.
أيضاً الإشكالية تتعلق بالقُوى السياسية ذات الخطاب السياسي المُشتّت، التي تستغلّ حدوث الأزمات والاضطرابات لتحقيق جملة من المكاسب السياسية والشعبية على حساب منافسيها وهو ما يمثل انحرافا في عملية بناء الدولة الحديثة، ثُمّ إنّ العراق كرّس تجربة الاستبداد السياسي وكرّس الخطاب الشعبوي المُشتّت بعد الاستبداد، وعاش تجربة تحوّل ديمقراطي لكنّ في ظلّ عجز الآليات التوافقية،” لأنّ التوافقية تلطّف التعددية ولا تؤدي إلى زوال مفاعيلها التي أنتجت أزمات وتوترات وتعدّد مراكز السلطة، وتصادم مراكز صنع القرار وتداخل السلطات وضعف دور البرلمان لحساب الحكومة، لذلك حلّ التفرد محلّ التوافق وبدأ يضيق الهامش الديمقراطي، ولهذا تحقّق في الحالة العراقية تطبيق جزئي لمفهوم الديمقراطية بطبيعتها التوافقية فقط، والتّي ولدت أمراض للديمقراطية في العراق أهمّها: غلبة المصالح الضيقة والولاءات الفرعية على المصلحة العامة والشحن الطائفي وإذكاء التوتّر وربط المجتمع العراقي سلبا بالموروثات التاريخية)
إضافة إلى ما تقدّم هناك عراقيل عديدة تنتظر المشروع الوطني الحديث من أهمّها الفساد الذي انتشر في كافات القطاعات والمجالات، والفساد هو العائق الأكبر في وجه الإصلاح حيث تقف ورائه منظومة متكاملة مستفيدة منه وتتغذّى من وجوده تربطها شبكة علاقات قائمة على الزبونية والمحسوبية والولاء للأقوى، لذلك فهي ترى في قيام أي مشروع وطني تهديدا لوجودها.
أيضاً تصطدم دولة المواطنة المنشودة بعائق آخر هو محدودية الخبرة السياسية لبعض القائمين بالشأن السياسي، خُصوصا وأن الديمقراطية في هذا البلد هشّة ومازالت في طورها الجنيني تزامنا مع غياب الثقافة السياسية والوعي بضرورة التغيير والقطع الكُلّي مع المنظومة القديمة، ولا ننس هنا خطورة الوضع الأمني وتجدّد المخاوف من عودة داعش أو ظهور تشكيلات إرهابية أخرى.
ورغم تزايد الرفض الإيراني إلاّ أن ذلك لا يعني هزيمة إيران بل بالعكس فقد أظهرت هذه الاحتجاجات مدى تبعية القوى الأمنية للمرجعيات الدينية وولاء المليشيات العراقية الشيعية لسلطة الولي الفقيه، يعني ذلك مزيدا من المشاكل والانقسامات في بلد يُعاني أساسا من أزمات عدّة.
فترة ما بعد الاحتجاجات هي فترة مفصليّة في تاريخ العراق حيث ستزداد التحديات أما الحكومة العراقية القادمة المطالبة بإيجاد حالة من التوازن في علاقة العراق مع محيطه الإقليمي بما في ذلك العلاقة مع إيران ودول الخليج وتركيا والأردن.
من جهة أخرى لا يُمكن لنا التغاضي عن المحاولات الرامية لتقديس الزعامات (البطل الشعبي) الذي يسعى إلى أن يُصبح نموذجا للقيادة السياسية الحكيمة من خلال امتلاكه للذكاء والفطنة السياسية والقدرة على الإقناع والإرادة الصلبة في قيادة المجتمع، “وهو ما ينتج عنه استبدال العملية الانتخابية بديناميكية الإجماع والتزكية والتماهي مع الرمز المقدّس على حساب المشروع الوطني كما هو الحال مع مُقتدى الصدر الذي يُحاول جاهدا تقديم نفسه كزعيم شيعي عراقي معتدل يعمل للسّلام، لقد اكتسب الصدر احترام السيد السيستاني وأخذ يطلب رأيه في أكثر المسائل المُهمّة، وينوي مقتدى زيارة أوروبا وكذلك الفاتيكان ليُقدّم نفسه كزعيم شيعي عراقي معتدل يعمل للسلام، مقابل الزعيم الشيعي اللبناني السيد حسن نصر الله، ومن الطبيعي أن يسير العالم ويتلقف مقتدى وأفكاره ويدعمها من دون رهانات حتى ولو حمل معه لواء مواجهة مشروع إيران في العراق ومواجهة ضباط مقتدى القدامى الذين ينخرطون اليوم ضمن تشكيلات عراقية موالية لإيران”. ()
صفوة القول، كشفت المظاهرات العراقية 2019 عن بداية نهاية التمذهب السياسي والمُحاصصة الطائفية، وبداية زوال مشروع ولاية الفقيه الذي هيمن بظلاله على الحياة السياسية العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين، كما كشفت هذه الاحتجاجات أنّ العلاقة بين الديمقراطية (عمادها دولة المواطنة) وبناء مشروع وطني عراقي علاقة مُمكنة متى تحقّقت إرادة شعبية وأخرى سياسية قويّة وواعية بضرورة التغيير والقطع مع الإرث الطائفي، مع امتلاك العراق المُقّومات والقُدرات التّي تؤهله لبناء مشروع وطني وحدوي يضع البلاد على اعتاب الاستقرار الداخلي بالتوازي مع تحقيق عمق استراتيجي خارجي، ولعب دور بارز وفعّال في الشرق الأوسط.
ومتى تحقّق المشروع الوطني الذاتي فيمكن للتوجهات القومية والدينية والإثنية أن تنصهر وتذوب في إطار هُويّة وطنية حاضنة للجميع، لكن لا بدّ أن يضع هذا المشروع الوطني نصب أعينه مطالب المواطن العراقي، إذ تملك العراق ثروة نفطية ضخمة وثروة سكانية مُثقّفة ومُنتجة ليستعيد اشعاعه السابق.
تُنبّئ المظاهرات الأخيرة 2019 بحدوث تغييرات كبيرة خاصّة حين يتمكّن المُحتجّون من اسقاط النظام القائم وتشكيل مشروع وطني حديث وتجاوز الضغوط القويّة للجارة الإيرانية،وتشكيل موقف هويّاتي جديد بالتحوّل من مركزية الهُويّة الدينية الطائفية والمذهبية إلى مركزية الهُويّة الوطنية العراقية الحاضنة لجميع المكوّنات، وقتها يُصبح الأمل ممكنا في أفق سياسي عراقي وطني يملك استقلاله وقراره السيادي خارج الأطر التقليدية القبلية والعائلية والعشائرية والاثنية وخارج سُلطة الحوزة العلمية التي أثبتت عجزها جميعا في بناء عراق موحّد يصلون به إلى برّ الديمقراطية المنشودة.
الحلّ هنا لا يكمن في تأسيس دولة دينية ما قبل الانقسامات المذهبية لأنه حلّ طُوباوي صعب التحقّق في العراق، بل الحلّ المطلوب هو بناء مجتمع مدني أي دولة الإنسان القائم على المواطنة الدستورية التي تذوب فيها الأصول الدينية والمذهبية والعرقية والعشائرية والاثنية “وتتكون منها شخصية وطنية عامّة تتجسّد في أفراد يتمتعون بالحقوق عينها وتترتّب على حقوقهم الواجبات عينها. على مُقتضى مبدأ المساواة الناظم للاجتماع السياسي الحديث، مجتمع الدولة الوطنية الحديثة هو مجتمع دولة الحقّ والقانون، الذّي تحكمه القوانين بماهي التجسيد المادي لما يُسميه جون جاك روسو الإرادة العامّة، وليس الأعراف وقيم الجماعات المغلقة، هو المجتمع الذي يقرّ الحق للجميع في التعبير والرأي والاعتقاد والاختلاف بما لا يصادر حقوق الآخرين وينتهكها”.، وتلتزم الدولة تجاه انتماءات المواطنين وهُوياتهم الثقافية بالحياد التام بمعنى أنّه لا أحد فوق القانون، كما تلتزم بنشر ثقافة التسامح والحريّة والتعدديّة لضمان مُستوى من التعايش المشترك بين جميع مكوناتها وأطيافها.
لن يتحقّق التحرّر السياسي ولن تُبنى الدولة الوطنية دون مشروع ديمقراطي ذاتي خاص بمشاكل الشعب وهمومه وقضاياه التي تؤرقه (الفقر، الجهل، المرض…) لأنّ الوحدة الداخلية أساس الوحدة الخارجية وأساس التحرّر من الهيمنة الأجنبية والأطماع الغربية، كما لا يمكن تأسيس أو إنشاء نظام ديمقراطي من دون ديمقراطيين يؤمنون بهذا المشروع ويستميتون من أجل الدفاع عنه،” لأنّ الأقليات الحاكمة والمُتحكّمة في مصير شعوبها لن تقبل أن تتخلّى بسهولة عن امتيازاتها وحُدودها الإقطاعية وتقسيماتها الطائفية، لا يمكن أن تنشأ الدولة العربية الواحدة إذن إلاّ بتحطيم الدولةـ الطبقات المحليّة المُتسلّطة، ولن يأتي عصر الدولة الأمّة إلا بزوال عصر الدولة الطبقة الأقلية، ولن يكون هناك تحرّر قومي إلا بالتحرّر السياسي، فالحُرّية هي وطن الوحدات الاجتماعية الكبرى ومبرّر وجودها، وهذا يفسّر ويشرح الميل العام للطبقات المحلية السائدة مهما كان شكلها إلى التقوقع الإقليمي”، على حساب انتمائها الوطني وقرارها السيادي.
أمام العراقيين أشهر ساخنة من الأحداث والتجاذبات، فهل سيستخلص العراق الدروس من المظاهرات السابقة أم أنّه سيعيد التجارب الانتخابية الماضية وفق نفس المعايير؟
هذا سؤال يلوح في العراق وصدى جوابه يقرّر مصير المشرق العربي وأبعد خصوصا وأن العراق ينتظره تحدّيات كبرى، فإضافة إلى أزماته المتعدّدة انزدات له مؤخرا مشكلة المياه التي تهدّد حياة العراقيين بعد انحسار مياه دجلة والفرات بفعل السياسة المائية لجارتيه تركيا وإيران، لعلّها مشكلة مفتعلة الغرض منا تطويع وتركيع العراق وعرقلة مساره الإصلاحي حتّى لا يخرج من بيت الطاعة وحتّى لا تضيع الامتيازات التركيةـ الإيرانية في أرض الرافدين.