المشهد الكردستاني .. فصول الخيبات وخريف الأحلام الضائعة
سامان نوح
بألم مكبوت، يقفون عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات عوائلهم، منتظرين الفرج من بغداد، الذي قد يأتي او لايأتي، فللأخيرة حججها مع كل قطع او تأخير في ارسال “موازنة” اقليم يصعب وصف الأحوال فيه، حيث يتمازج الغنى مع الفقر والنهوض العمراني مع الغرق في مستنقع الفشل الاقتصادي والعجز السياسي والانقسام الاداري.
فتحت المدارس أبوابها في النصف الأصفر من الاقليم، وأحجمت في النصف الأخضر بالتزامن مع اضراب كوادر طبية عن العمل احتجاجا، فيكاد ينتصف شهر تشرين مبدداً بخريفه أمنياتهم وهم مازالوا ينتظرون رواتب نيسان الربيعية.
يقول موظف، يحاول ان يمنع نفسه عن البكاء وهو يستجدي من جاره 10 آلاف دينار “حكومتنا الألكترونية، تريد من الطلبة حواسيب متقدمة لإدامة التعليم عن بُعد، وأنا لا املك ثمن شراء علاكَة صمون وكيلوي طماطة وبطاطا لأطفالي… بالأمس أمي قالت حين فُزعت من أمر سعالها المتكرر: بني ان إصبت بكورونا فلا تربك نفسك بالمستشفيات وعلاجاتها المكلفة.. دعني أموت بسلام دون أن اوجع أحدا منكم”.
بصبر غريب ومرير، مئات آلاف الموظفين المتعبين حد اليأس، ينتظرون بشرى صرف رواتبهم، وقد مضى على آخر “راتب مقطوع” تسلموه أكثر من خمسين يوماً. هم يحلمون كل ليلة بأن ما يمرون به مجرد كابوس سيتبدد في الصبح، فيأتيهم الصبح بخبر صادم: رفعت رواتب أشهر نيسان وأيار وحزيران وتموز وآب، وستسلم الحكومة لرعاياها 80% من راتب شهر أيلول.
لا حل غير القطع والشطب، يقولها قادة الحكومة صراحة دون مواربة، فقد فشلت سياسة “الادخار الاجباري” ولن تكرر في اقليم تستفحل أزمته المالية منذ سنوات بينما تعلو بكل زاوية فيه مشاريع جديدة تقدر تكاليفها بمئات ملايين الدولارات تتركز على قطاع العقارات وجوانب استثمارية عديدة ترتبط بالرفاهية. مشاريع تلتصق اسماء أصحابها بمتنفذين في الحزبيين الحاكمين.
اقليم قادته المترفون المنقطعون عن العالم السفلي الذي صنعوه، يرددون مرة انهم يتقدمون بغداد وباقي مناطق العراق بخمسين عاماً، وان لا مقارنة بالخدمات وفرص العمل والرفاه، ومرات يستنجدون بدفع ولو جزء صغير من الرواتب المتأخرة. ومرة يقولون ان طريق الاستقلال ممهد ولا حياد عنه، ومرات يقولون انه لا بديل فبغداد هي العمق الاستراتيجي الوحيد لأربيل.
انقلاب المزاج والتطلعات
يحمل ذلك الفشل المزمن في دفع استحقاق الموظفين، بما أحدثه من تغير كبير في أحوالهم بعد سنوات البذخ (2009-2013) تداعيات اجتماعية عميقة، فمعه انقلب مزاج عامة الناس من متفائلين بحاضرهم ومستبشرين بمستقبلهم، الى محبطين وقلقين على مستقبل أبنائهم. فرواتب الموظفين هي التي تحرك السوق وتدير عجلة باقي القطاعات التي تشل معظمها الاحتكارات.
لا يتعلق التغيير او الانقلاب بالوضع الاقتصادي فحسب، بل ايضا بالمزاج والسلوك الاجتماعي، وحتى بالشعور والرؤى القومية، فتلك الحماسة القومية لم تعد تجدها في الشارع. تبدلت الأحوال وتراجع الايمان بالكثير من المُثل، وتبددت الكثير من الأحلام.
طوال سنوات كان توزيع المال الحزبي دون حساب ضامناً لصمت معظم الكتبة والصحفيين والفنانين بل والأكاديميين والكوادر التربوية ورجال الدين، عن مواضع الفشل والخلل. معه أصبح الصمت عن الأخطاء بل والمصائب سلوكا مجتمعيا يفرضه اللاجدوى او الخوف من الفوضى او خسارات أكبر لدى تلك الفئات التي في معظمها كانت تحصل على أكثر من ما تستحقه.
عالمان لا يلتقيان
مع الوقائع المرة، واستسلام “أشباه النخب” لامتيازاتهم، زاد الانقطاع بين القادة والعامة، حتى اصبحت كل فئة تعيش في عالم مختلف. عالمان لا يلتقيان الا في الخطب والبيانات ومواسم الانتخابات. فمقابل الفقر هناك ثراء فاحش دون كفاءة وجهد، ومقابل انهيار مؤسسات تعليم العامة هناك مدارس وجامعات لنخبة النخبة الحزبية، وأمام غياب العلاج بمستشفيات الحكومة هناك مستشفيات خمس نجوم يكلف فيها العلاج لليلة واحدة أكثر من الف دولار.
وأمام عدم تمكن موظف او كاسب من ايجار منزل صغير هناك من يشترون قصورا أو أبراجا سكنية، ومقابل أسواق البالة هناك اسواق الـ”هاي كلاس”، ومقابل “موظف لا يتلقى كل شهرين راتبا كاملا هناك مسؤول يحصل على مليون دولار بالتهريب كل ليلة” كما يقول النائب البارز علي حمه صالح، وهو كلام لا ينفيه مسؤولون.
يقول رجالات الحلقات المحيطة بالقادة، والذين يبنون أسوارا عالية أمام الكثير من الحقائق: لا مشاكل مالية لدى مواطني الاقليم، كل واحد لديه عمل خاص الى جانب وظيفته الحكومية او الحزبية. نعم هناك من بلا عمل لكن عليهم عدم انتظار الحكومة..عليهم الكفاح للفوز بعمل.
الانقطاع عن الواقع أمر مزمن. يعبر مئات الشبان الحدود يوميا بحثا عن وطن بديل مخاطرين بأرواحهم. فيرد رجالات الحكومة “لو لم يكن لديهم آلاف الدولارات لما تمكنوا من الهجرة”.
خلال اجتماع “الحكومة – البرلمان”، يخوض نائب رئيس الحكومة الذي يشغل الموقع ذاته منذ الحكومة السابقة، في تفاصيل مشروع الاصلاح وتواصله بكل نجاح، ثم يسأل وهو يبتسم عن رقم الكابينة الحالية للحكومة، هل هي الكابينة 8 او 9 او 10 !. امام الشاشات التي عرضت المشهد وقف الموظفون والمتقاعدون يتساءلون عن عدد رواتبهم المدخرة (غير المدفوعة) خلال الأعوام الخمس الماضية 12 أم أكثر أم أقل، وعدد رواتبهم المدفوعة بنسبة قطع 30% هل هي 32 أم أكثر ام اقل.
يواصل نائب رئيس الحكومة في ذات الجلسة توزيع ابتساماته وارشاداته ومعلوماته، قائلا ان عدد من يحملون رتب عليا من لواء وعميد وعقيد في اقليم كردستان يفوق ما موجود في امريكا. يوافقه الرأي رئيس الحكومة الجالس الى جانبه، مرددا بل اكثر من ما هو موجود في الصين ذاتها. يبتسم النواب جميعا لهذا الانجاز.
جنرالات بلا جيش
“هي معلومة معروفة” يقول صحفي “في قرية واحدة أحصينا 22 من أصحاب الرتب العليا”. جيش الرتب ذلك والذي بني بتزكيات وترفيعات حزبية دون الحد الأدنى من المؤهلات في ظل سياسة تعزيز الصفوف الحزبية داخل قوات البيشمركة المنقسمة، انسحب في 2014 أمام تقدم “خفافيش” داعش الارهابية تاركاً وراءه مأساة ايزيدية مستمرة. كما ترك لاحقا كركوك في مشهد مكشوف الأسباب لكن البعض يجادل ان خلفه مؤامرة اقليمية كونية كبرى.
لا تشغل الخسارات في كركوك والمناطق المتنازع عليها، ولا تراجع الشعور والتطلعات القومية، ولا الانقلابات في السلوك الاجتماعي، ولا الخلل الاداري والفساد البنيوي، ولا انهيار التعليم والوضع الحرج للقطاع الصحي، هموم الكثيرين في الاقليم، ما يشغل الجميع هو الوضع المالي الحرج، فمعه ضاقت آفاق الأحلام الكبرى وانتهت الى الحصول على راتب شهري بل ونصف راتب.
يقول رئيس الحكومة، مبررا العجز المزمن عن دفع الرواتب، ان “53% من عائدات النفط فقط تعود للحكومة” والباقي تنتهي الى جيوب الشركات. مع استمرار اعفاء تلك الشركات عن دفع الضرائب. فلا احد منها يدفع شيئا لحكومة الاقليم.
وفي رده على تأكيدات نواب بارزين من “تزايد التهريب في المعابر، وعدم دفع الرسوم، ووجود شركات تحصل على عائدات كبيرة بلا حق” ما يحرم الاقليم من نحو ثلث عائداته، يقول ان الحكومة شكلت لجانا للمتابعة. لكنه يلمح الى انهم لا يريدون جراء أي اجراءات يتخذونها لحل المعضلة “الدخول في مشكلة سياسية وأمنية .. علينا ان نأخذ ذلك بنظر الاعتبار”!.
يوضح رئيس الحكومة “للأسف لغاية الآن آثار الادارتين (اربيل، السليمانية) ماثلة في المعابر الحدودية.. نحاول ازالة هذه الآثار، شكلنا لجاناً في وزارتي الداخلية والبيشمركة لمنع عمليات التهريب هناك”.
يفسر نائب ذلك الكلام بالقول، ان ذلك يمثل اشارة مقلقة، فهو يعني ان مواجهة ذلك الفساد الذي يتسبب بضياع وسرقة ملايين الدولارات يوميا، قد يحمل نتائج أكثر سوءا.
ويضيف: مسؤول قال صراحة، لن نوقف الفساد والتهريب هنا، اذا لم يقم الحزب الآخر بوقفه هناك. طالما يسرقون سنسرق!
البقاء والرحيل
يسأل نائب بارز من المعارضة: اذا كان حكومة الشراكة الحالية تعجز عن دفع الرواتب!.. ولم تنجح في الغاء رواتب الفضائيين ومزدوجي الراتب (يقدر مسؤولون عددهم بنحو 67 الفا) وأصحاب الامتيازات غير الشرعية! بعد عام وثلاثة اشهر من اعلانها الاصلاح ووعودها ببناء كردستان قوية؟.. واذا لم تستطع وقف عمليات التهريب حول المعابر وعدم دفع الرسوم خلالها، ولا تملك حلولا للسيطرة على الكثير من عمليات نهب المال العام. فما هو عملها؟
ترد الحكومة على المنتقدين: نحن ورثنا تركة ثقيلة، 27 مليار دولار من الديون، وفسادا كبيرا، ومليون و250 الف موظف… الاصلاح لا يتحقق بعام او اثنين، انه يتطلب مراحل ودرجات.. الحكومة تواصل ادامة مشاريعها الاستراتيجية في البنية التحتية كما في تقديم الخدمات.
ويستدرك رئيس الحكومة موجها انتقاده للمعارضة التي لا ترى الا السلبيات: نحن مُنتخبون، الشعب انتخبنا ولم ينتخبكم، لذا عليكم ان تتوقفوا عن المزايدات وتنتظروا يوما ينتخبكم الشعب فيه، حينها يحق لكم تشكيل الحكومة.
يختتم مشهد الاستضافة البرلمانية، بتأكيد نائب رئيس الحكومة على ان مسيرة الاصلاح الكبرى التي بدأت في 2014 تمضي بثبات في محطاتها المتوالية لتحقيق اهدافها.
لكن ذاته نائب رئيس الحكومة شكا قبل ايام في ذكرى رحيل والده، وفي رسالة مفتوحة، من سطوة جماعات الفساد والقوت الحرام الذين انحرفوا عن المسار ويبددون فرص تحقيق تطلعات الشعب.
يتساءل برلماني: من هم الذين تحدث عنهم نائب رئيس الحكومة ووصفهم بانهم جماعات المافيا والفساد والقوت الحرام الذين يعطلون العمل ويمنعون تحقيق العدالة والرفاه؟
وسط نار الأزمة المالية ودخان “مشاريع الاصلاح”، وفي أروقة هياكل مؤسسات “تشريعة ورقابية” بلا حول ولا قوة، تخرج رئيسة البرلمان لتحسم القيل والقال:”سجلوا ما اقوله للتاريخ. مشروع الاصلاح المقر لا يعيد أموالاً للحكومة.. نحتاج قانونا جديدا يرتبط بالاصلاح في العائدات” لقد تم اخراج القانون مشوها في لحظة حرجة ما كانت قابلة للتأجيل.
يحدث ذلك فيما تتوالى التقارير البرلمانية التي لا تنفيها الحكومة، عن عمليات فشل أو فساد تشيب لها الرؤوس، في حقول النفط والمعابر والاستثمار، وحتى في تهريب المخدرات والأدوية وادخال البضائع الفاسدة التي لا يمر يوم دون الحديث عن ضبط اطنان منها في أسواق الاقليم وجنباته العامرة بالخيرات والمسرات.
في ظل العجز عن دفع راتب واحد كامل كل شهرين، لم يعد السؤال البديهي يتردد عن مآل العائدات المليونية للنفط والمعابر، فالاجابات المتشعبة حد الضياع عن عقود الشركات القابضة ومواضع الفساد غير القابلة للمعالجة وعن حلقات النفوذ المحصنة، تنتهي الى ذات المخرجات. هكذا تكاد تتبدد أحلام شعب مظلوم في اقليم صغير يتوسط ساحة صراع قوى اقليمية كبرى لا تخبو فيها النار.