د. عبدالجبار الرفاعي
من أهمّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو عجزه عن فهم نفسه فهمًا دقيقًا تامًا كاملًا شاملًا، وعجزه عن اكتشافِ الطبيعة الإنسانية وفهمِها فهمًا علميًا تفصيليًا. وإن كان بعضُ الناس لحظةَ تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقة وبالتفصيل، ويعرف كلَّ شيء في داخلك، وهو لا يدري أنك أنت لا تعرف نفسَك إلى هذه الدرجة التي يزعمها هو.
ما أقسى أن تكون نفسُ الإنسان غامضةً حتى لنفسه، ما لا يعرفه الإنسان عن نفسه أكثر مما يعرفه عنها. يعجز الإنسانُ عن معرفة كثيرٍ مما يحجبه عالمُه الباطني بشكلٍ واضح ودقيق، لذلك يبوح له كلُّ منعطفٍ حادٍّ في حياته بشيءٍ يثير دهشتَه مما تخفيه نفسُه عنه، ويظل في رحلةِ اكتشافٍ لنفسه مادام حيًا، يلتقط في هذه الرحلة كلَّ مرة شيئًا مما يغوص في أعماقه. نبّه إلى ذلك أبو حيان التوحيدي من قبل بقوله: «إنَّ الإنسانَ أشْكَلَ عليهِ الإنسانُ». وذهب محيي الدين ابن عربي إلى: «أن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقربان الأكرم، الجامع لخصائص العالَم»، بصيرةُ محيي الدين يتكشف فيها بعض الأسرار المختزنة في طبيعة الإنسان.
يكون الإنسانُ أعجزَ لو حاول معرفةَ غيره، إذ تتعذّر عليه معرفةُ كلِّ شيء في أعماق الشخصية الإنسانية وما يكتنفها من غموض وخفاء. أكثرُ الناس يحاول أن يعلن عن شخصيته بكيفيةٍ تخفي أكثرَ مما تعلن، وتضمر أكثرَ مما تظهر، وتتجلّى هذه الحالةُ بشكلٍ أوضح في المجتمع الذي يتعرّض فيه الإنسانُ منذ ولادته لتربيةٍ غير سليمة، ويتعلم على وفق نظامٍ تعليمي غير مؤسس على أسس علمية صحيحة، وتسود محيطَه الاجتماعي قيمٌ محلية متشدّدة ومعاييرُ مزدوجة، وتتحكم في حياة الناس ومصائرهم تقاليدُ عشائرية مغلقة، وسلطةٌ سياسية قمعية، في مثل هذا المجتمع يضطر الإنسانُ إلى أن يختفي خلفَ أقنعة ينتقيها بعناية لنفسه، لئلا يُفتضَح ما في داخله، وتتعرض مصالحُه للضياع، وربما حياتُه للخطر.
الإنسانُ كائنٌ مركبٌ غامضٌ، ما يجري من قوانين في الطبيعة لا تنطبق كلُّها عليه. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلِّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلِّ أسرار الطبيعة الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التناقض في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع المكتومة لمواقفه في مختلف أحواله.
الطبيعةُ الإنسانيةُ عميقة معقدة متضادّة، تختزن الأسرارَ حتى لدى أولئك الناس الذين نحسبهم سذّجًا: إذ «ليس من شخص، وإن كان زريًا قميئًا، إلا وفيه سر كامن لا يشركه فيه أحد» يقول أبو حيان التوحيدي. ما هو غاطسٌ في الإنسان أعظمُ وأشدُّ وأخطر مما هو ظاهر. الإنسان كائنٌ يحتل اللاشعورُ دورًا أساسيًا في تشكيل فهمه ومواقفه وسلوكه، لا تستقلّ مشاعرُ الإنسان عن عقله، ولا يستقلّ عقلُه عن مشاعره. يرى علمُ النفس التحليلي ان «كلَّ شخص هاوية، ستصاب بالدوار لو أنك نظرت إلى أعماقه» كما يقول مؤسسه فرويد.
أثرُ عواطف الإنسان ومشاعره وانفعالاته أساسيٌّ في قراراته ومواقفه. أحيانًا يتخذ الإنسانُ قراراتٍ هو لا يعرف نتائجَها، ويتكلم كلماتٍ هو لا يدري لماذا تكلّمها، ثم سرعان ما يندم عليها، لكنه لحظةَ الندم يعجز عن تدارك آثارها وارتداداتها المؤذية عليه وعلى مصالحه وعلاقاته وحياته. يمكن أن يرتكب الإنسانُ جريمةَ قتلٍ في لحظة غضب عنيفة من دون عداوة سابقة أو أسباب معروفة، بعضُ الناس يفتقد عقلُه القدرةَ على التحكم بإرادته ومواقفه لحظات الانفعال الهائجة، فيتخذ قراراتٍ حمقاء، ومواقف رعناء، تصادر عليه مصيرَه، وتفسد عيشَه، وتدمّر حياتَه. وقد صوّر جلال الدين الرومي في المثنوي التنازع في ذات الإنسان بين الشر والخير، في حديثه عن موسى بوصفه يرمز للإرادة الخيرة، وفرعون بوصفه يرمز للإرادة الشريرة، بقوله: «إن موسى وفرعون في وجودك، ينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في وجودك».
اكتشفَ بعضَ خفايا الطبيعة الإنسانية علمُ النفس وعلومُ الإنسان والمجتمع ومختلفُ العلوم الحديثة، ومازالت تتواصلُ اكتشافاتُها، لأن الطبيعةَ الإنسانية تختزن الأسرارَ التي أودعها اللهُ في الخلق. ذلك ما يقوله الفلاسفةُ والعلماءُ، ويتكشف شيءٌ منه في استبصاراتِ العرفاء الحاذقة. يشير محيي الدين ابنُ عربي إلى طبيعةِ الإنسان وما ينطوي عليه، وكيفيةِ خلقه من الأضداد، بقوله: «واعلم أن الإنسان شجرةٌ من الشجرات، أنبتها اللهُ شجرةً لا نجمًا، لأنه قائمٌ على ساق، وجعله شجرةً من التشاجر الذي فيه، لكونه مخلوقًا من الأضداد، والأضدادُ تطلبُ التخاصمَ والتشاجرَ والمنازعةَ». ويقول محيي الدين في محل آخر: «لا شئ أوسع من حقيقة الإنسان ولا شيء أضيق
منها».
التضادُّ بين الروح والعقل قدرٌ فرضته على الإنسان طبيعتُه المخلوقة بهذه الكيفية، وهذا التضادّ لا ينتهي، ويتوالد من المواقف المتضادّة باستمرار مواقفُ بديلة، وكأن الإنسانَ يظل محكومًا بهذه المعادلة التي شرحها هيغل في ديالكتيكه، الإنسانيةَ الطبيعيةَ هي «تناقض لم يتم حله داخليًا»، حسب رأيه. وقبل هيغل أشار إلى ذلك شيخُ الإشراق السهروردي المقتول سنة 586 هـ في قلعة حلب، بقوله: «لولا التضاد لما صح الكون والفساد».
نرى التضادَّ بين الروح والعقل بوضوح، فعندما يتحدث العقلُ تصمت الروحُ، وعندما تتحدّث الروحُ يصمت العقلُ، إذ لا تستفيق الروحُ إلا عندما يصمت العقل، ولا يستفيقُ العقلُ إلا عندما تصمت الروحُ. مادام الإنسانُ مقيمًا في العقل لن تمتلئ الروح، ومادام الإنسانُ مقيمًا في الروح لن يمتلئ العقل. عندما يتوهج العقلُ تنطفئ الروح، وربما تصير رمادًا، وعندما تتوهج الروحُ ينطفئ العقل، وربما يخمد ويغرق في سباتٍ أبدي. عندما يغيب العقلُ يغرق المرءُ في كهوف ظلام الوهم والخرافة والضياع. لذلك تُخفِق محاولاتُ الجمع بينهما في: وعاءٍ واحد، وآنٍ واحد، وموقفٍ واحد، لامتناعِ السير في طريقين متوازيين في
آن واحد.
مرجعيةُ عقل الفيلسوف تدلّه على طريق، وحججُ اللاهوتي والمتكلم تدله على طريق ربما لا يتطابق مع عقل الفيلسوف، واستبصاراتُ العارف تمكنه من تذوق بعضَ الحقائقِ عبر شهوده لها. وذلك ما يحكيه الاختلافُ والتنوّع في آراء ومواقف الفلاسفة واللاهوتيين والعرفاء في كلِّ الأديان. لا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالروح عن العقل فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ولا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالعقل عن الروح فيهجر ما تغتني به آثارُ العرفاء من إشراقات مُلهِمة للروح، ويصعب جدًا أو يتعذر على الإنسان الجمعُ بينهما في المواقف ذاتها.
ذلك هو أحدُ أقدار الإنسان الوجودية، وما فرضته عليه طبيعتُه الإنسانية. لحظةَ اجتياز هذا الامتحان العسير بنجاحٍ يصل الإنسانُ في سفره إلى طورٍ وجودي يستطيع فيه أن يعيش من دون أن يضحي بالعقل قربانًا للروح، أو يضحي بالروح قربانًا للعقل. وهو من أعسر اختبارات المرء في الحياة وأشقّها وأشقاها، إنه الاختبارُ الوجودي المزمن الذي يولد بولادتنا، إنه اختبارٌ يعيش معنا ونعيش معه ليلًا ونهارًا، إنه اختبارٌ يفشل فيه كثيرٌ من البشر، اختبارٌ لا ينجو منه أحد، ولن يظفر باجتيازه بنجاح إلا الأفذاذ. يقول إريك فروم: «أؤمن بأن طبيعةَ الإنسان هي تناقضٌ متأصلٌ في ظروف الوجود الإنساني، ويتطلب هذا التناقضُ البحثَ عن حلول تخلق بدورها متناقضاتٍ جديدة، ومن ثم تحتاج إلى الاستمرار في البحث عن حلول».