الشعائر الحسينية أصبحت تجارة واستثمار لدى أصحاب الشأن!

505

بقلم: كرار حيدر الموسوي

الشعائر الحسينية أصبحت تجارة واستثمار لدى أصحاب الشأن, وكانوا معتاشين قبلا على القيمة والهريسة والزردة والآن على البخور والأعلام واللطم بشتى الطرق و الزنجيل و التطبير والطين على الرأس والملابس ويقول الشيخ باسم الكربلائي لولا الحسين ما عرفتم الله ,,, (والنعم وثلاث تنعام) ,,,والتنمر بطريقة اللطم الايقاعي وتكاد تكون رقصة والقفز من المنبر للقارئ لأنه متفاعل لدرجة الهوس الايقاعي المظهري…هل هذا ما اراده الحسين عليه السلام وأصحابه الكرام ؟ أم أن اميبا الفساد اوصلوها للشعائر والعقائد والركائز …وإذا كان ما جاءوا من اجله صحيح وموروث فهل من مرجع صحيح العلمية والمرجعية يؤيد كل هذا ومن المستفيد والى اين؟!

القصة على ما يبدو ليست ديانة أو حرصاً على تلك الطقوس، بقدر ما تهيأ لها مِن المشجعات، منها إجراءات الدَّوائر الرَّسمية في الحث على ترك الدَّوام الرَّسمي وبراتب كامل، ودفع المدارس والمؤسسات إلى المشاركة بشكل فعال، وتسخير الوسائل والأموال لإنجاحها.

فإذا كان الطعام يُقدم لثلاث وجبات، وخدمة أمنية وطبية، وصلت إلى إحضار مدلكين لتدليك الأرجل، استنفار الوزارات لخدمة المواكب، فتغدو المدن فارغة للتوجه في مواكب الماشين إلى كربلاء، مع وجود مواكب المسؤولين، وهي عادة تكون الأضخم، مِن دون لفت الانتباه إلى المخاطر التي تحيط بمواكب الماشين، يضاف إلى ذلك تضخيم الأرقام حتى وصلت هذا العام إلى خمسة عشر مليوناً، وهو رقم تشجيعي أكثر منه واقعي. هناك وهن كامل في الدَّولة ومؤسساتها الإنتاجية والاستهلاكية والخدماتية فلكل ماشياً، إذا وجدت له راتباً يدفع مجاناً وخدمة المأكل سارية مع توفر الأسباب الجاذبة الاُخر، فما علاقة الظَّاهرة بالتَّدين أو بالحسين نفسه؟!

لأجل الحسين ومحبيه في الوقت نفسه ظهرت حركات إصلاحية، حاولت مواجهة محاولات تغييب العقل وهيمنة الشَّعوذة باستغلال المنبر الحسيني، وهي حركات سابقة لكن كم مجتمع الشَّيعة بحاجتها اليوم، مِن أجل الشِّيعة قبل غيرهم، فلابد مِن ظهور ما يحفظ العقل، ويحمي الحسين مِن تجار السِّياسة والمناسبة.

إن حركة إصلاحية انطلقت من مكاتب علماء المذهب الإمامي ، لتخليص المأثرة الحسينية مما عَلق بها مِن ممارسات فرضتها غوائل السياسة، لم يُقتل الإمام الحسين (61 هـ) من أجلها. وهنا نقتبس من أحد المؤرخين الإيرانيين، وكان قد صَنف كتابه “قصص العلماء”(1873)، أي بعد قرن من سقوط الدولة الصفوية، كيف أن هذا الغلو بدأ مِن أجل السِّياسة.

قال محمد بن سليمان التنكابني (كان صنف كتابه عام 1873): “التمثيل من مخترعات الصَّفوية، ولما ظهر مذهب التشيع في بلاد إيران، وحكم الصَّفويين أمروا الذاكرين بإنشاد مصيبة سيد الشُّهداء(ع)، لكن الناس لم تكن تبكي. لأن المذهب لم يترسخ بعد في نفوسهم فاخترعوا التمثيل لعلَّ النَّاس تتألم من مشاهدة مصائب سيد الشهداء (ع) وترق قلوبهم، وسمي هذا العمل بالتعبئة، وهي بمعنى الاختراع أيضاً، وهذه التعبئة لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة بالاتفاق. والعلماء مختلفون في جوازه، والأكثر على التحريم، ومن جملة القائلين بالحرمة قطب الفقهاء والجلالة والنباهة والفطانة والذكاوة الشيخ جعفر النجفي”(قصص العلماء)! والمقصود هو الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (ت 1812).

كان الملا محمد تقي البرغاني القزويني (13 الهجري)، المعروف بالشهيد الثالث “يمنع تمثيل حادثة كربلاء في مصيبة سيد الشهداء(ع)، وكان يمنع من الغناء في المراثي، وإنشاد مصائب الأئمة”(نفسه). وأردف التنكابني: “التعبئة (ما يتعلق ما يمارس بعاشوراء) في ذلك الزمان لم تكن، لا موجودة ولا مستعملة، بل لم تكن موجودة أصلاً. والذي كان موجوداً في ذلك الزمان النَّواح. والنائحون طائفة من النّساء تنوح عند النّساء والرّجال تنوح عند الرّجال، يذكرون الميت ومناقبه ومفاخره ويبكون الحضور، ويأخذون الأجرة. كما ذكر الفقهاء المسألة في كتاب المتاجر، تحت عنوان أجرة النائحة”(نفسه).

صحيح أن البويهيين قد جعلوا يوم عاشوراء يوماً رسمياً، عند حكمهم لبغداد (334 -447 هـ)، ففي السنَّة 352هـ “عاشر محرَّم أمر معزُّ الدولة النَّاس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النّياحة…”(ابن الأثير، الكامل في التاريخ) – في ما بعد صار يوم عاشوراء عطلة رسمية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة(الدليل العراقي 1936)، وفي زمن الجمهورية أخذت تُقرأ قصة مقتل الحسين من الإذاعة العراقية، وبصوت الخطيب عبد الزهراء الكعبي(ت 1974)- لكن قبل تبنيها من قبل السلطة كانت مأثرة الحسين يستذكرها النَّاس طواعية بإظهار الحزن بالنّياحة شعراً وترتيلاً، وهي مطابقة إلى حدٍّ بعيد لما أورده الطبري (ت 310 هـ) في تاريخه.

أما ما استجد في العهد الصفوي فهو بدل اليوم الواحد من عاشوراء، العاشر، أصبح عشرة أيام، بداية من أول يوم محرم، ثم تستمر المجالس الحسينية حتى العشرين من صفر، حيث عودة رؤوس القتلى إلى كربلاء، ودخل في مراسم عاشوراء اللطم، وجلد الأبدان، واختلاق الكثير من الروايات، لزيادة الحزن وبعث البكاء، مثلما أشار صاحب “ّقصص العلماء” أعلاه. وإسماعيل الصفوي(ت 1524) كان أول مَنْ أدخل إلى الحزن الحسيني، الذي كان يجري بمراث ومدائح أدبية، “مجلس التعزية”(الوردي، لمحات اجتماعية)، و”تنظيم الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين على النحو المبالغ فيه، الذي بقي إلى الآن”.( الشيبي، الطريقة الصفوي)

أبرز ما فعله إسماعيل الصفوي، المتحدر من أصل سُنَّي تركي وقيل كُردي، هو إدخال النوازع الصوفية على قضية الحسين. فالصفوية بالأصل طريقة صوفية أريد لها تشكيل دولة تواجه الدولة العثمانية عبر المواجهة بين المذهبين، والقارئ للحوادث بين الدولتين يتوهم كأن المواجهة تجري بين إمامي المذهب، وهي ليست كذلك. على أية حال، هناك مَنْ برز من علماء المذهب قلقاً على التشيع، حتى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية منعت العام 1995 تلك الممارسات، وحينها صرح مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ضدها قائلاً: “التي تظهر الشيعة كأنهم يعيشون الوهم، ولا يعبرون العقل أي أهمية”(النجفي، ثورة التنزيه). لقد تقبل المجتمع الإيراني منع التسوط بالسلاسل والتطبير بالقامات، وهو الذي ظل يمارسها لقرون عديدة، فمتى يصدر بالعراق، ولو ترغيب وتثقيف رسمي ضدها، لتطويق ما يؤثر منها على الذائقة العامة، وتقديم الشيعة “كأنهم يعيشون الوهم” بعينه!

ظهرت حركات إصلاحية عديدة لطقوس عاشوراء، تبناها مجتهدون قبل السيد محسن الأمين(1867 -1952) بكثير، لشذيب ما دخلها في الحِقبة الصفوية وما بعدها، ما اجتاحها من ترهات وممارسات دامية وانفعالية، لم يسلم من أذاها حتى الأطفال، يظهرون متسوطين ومنهم يتطبرون، لتغرس في ذاكرتهم روح الثأر تحت شعار “يا لثارات الحسين”، أو “ثأر الله وثأر ثأره”، التي تشير لمَنْ لا يشارك فيها هو المقصود بدم الحسين. إلا أن ما ظهر من محاولات إصلاح قبل الأمين، لم يتقدم أصحابها لتحقيقها بالقول والفعل، إنما ظل الغالب منها مجرد فتاوٍ وآراء.

فما أن ترك النَّجف إلى الشام(1901)، ليكون مرجع الطَّائفة الشيعية بدمشق، بدأ بتنفيذ إصلاحه وعلى مراحل: مقاطعة المجالس التي تُعقد عند مقام السيدة زينب، وإقامة حفل في المناسبة تقرأ فيه قصة استشهاد الحسين، وبعد عامين تقدم بقوة لمنع ما كان يحدث بعاشوراء، وكثر المنصاعون له فاكتفوا بقراءة سيرة الحسين وفضائل أهل البيت، من دون لطم وتطبير وتسويط، بل تقدم من شباب الشيعة هناك لمنعها “بقوة السواعد”(النجفي، ثورة التَّنزيه). وظلت مناسبات عاشوراء، من كل عام، تمارس بمقام السيدة زينب، بما رسم لها الأمين، بعدها تحول من المحلية إلى الفضاء الارحب، فكتب كتاب “المجالس السَنية” قائلاً: “إن ما يفعله جملة من النَّاس من جرح أنفسهم بالسّيوف أو اللَّطم المؤدي إلى إيذاء البدن، هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الأعمال”(نفسه، عن المجالس)

أصدر الأمين، معارضاً مَنْ اعتبر تلك الممارسات واجب شرعيا، رسالة “التَّنزيه” (1928)، وهي بمثابة دستور حركته الإصلاحية. بحثت عنها لسنوات، حتى خُيل لي أنها أُحرقت شأنها شأن كتب المعتزلة وابن رشد، فلا وجود لها إلا ملحقة بكتابه “أعيان الشيعة”، وبكتاب “ثورة التَّنزيه” لمحمد قاسم النجفي، حتى حصلت على نسختها الأصل من مكتبة المربي يونس هادي، الذي راح ضحية حوادث العنف (1991)، ضمن ما جمع من كتب قيمة لمكتبته بالنَّجف. حدد الأمين الإساءة للحسين وعاشوراء، عبر النقاط الآتية: الكذب في المنابر والمحافل، إيذاء النَّفس، استعمال آلات اللهو، تَشبَّه الرِّجال بالنّساء في تمثيل المعركة، إركاب النَّساء على الهوادج بعمل مسرحي، غير لائق، وهنَّ بنات بيت النَّبوة، صياح النَّساء والزعيق بالأصوات المنكرة، وما فيها من هتك وشنيعة(التَّنزيه)

أما النَّجف فكانت ممثلة بالسيد أبو الحسن الأصفهاني (ت 1946)، وكان من عظماء مراجع الشيعة، حرم “ضرب الرؤوس بالسّيوف، ولطم الصدور، وضرب الظهور بالسلاسل، ودق الطبول والصنوج والمزامير، وما يجري عادة في عاشوراء باسم الحزن على أبي عبد الله الحسين”(الخليلي، هكذا عرفتهم).

ثم أصدر أبو الحسن فتوى قضت بتحريم سماع قراءة الخطيب صالح الحلي (ت 1940) من على المنبر الحسيني، وكان من ألد أعداء الحركة الإصلاحية، وأخذ يكثر الهجوم على المرجع السيد أبي الحسن، وهي فتوى، حسب التقاليد الفقهية “تفسيقية”، وسبب إصدارها “التصرف بعقول النَّاس تصرفاً عجيباً”(نفسه). والحلي هو الذي تجرأ على السيد الأمين بالقول: “يا راكباً أما مررت بجلق.. فأبصق بوجه أمينها المتزندق”، وقيل إنه لأحد الشعراء العامليين (نفسه). إلا أن شاعراً نجفياً مثل الشاعر المطبوع مهدي الحجار(ت 1939) وقف ذاباً عن السيد الأمين، ومما خاطبه: “تأسَ يا مُحسن في ما لقيت بما .. لاقاه جدك من بغي ومن حسدِ”.

حاول مثقفون إحياء تلك الحركة من منابرهم في المدارس والصحف فتقدم المدرسان والمثقفان حينها (الأربعينيات) محمد شرارة وجاسم رَجب، التبشير بإصلاح عاشوراء وسط مدينة الحلة، لإبعاد طلبة الثانوية عن الأوهام وما ينصاع له العوام من العويل والبكاء واللطم، لكن تجار المواكب أنزلوا مواكبهم يرددون لاطمين الصدور مناشدين الحسين: “يَردون اسمك ينمحي جاسم رجب وشِرارة”(بلقيس شرارة، شرارة من الإيمان إلى الفكر)، والحقيقة أنهم يخافون على تجارتهم.

بعد سوريا ولبنان والعراق وصلت المعركة إلى الهند وإيران، وحيث يوجد الشيعة، لكنه بعد وفاة صاحب “التَّنزيه”، تغلبت الرجعية الدينية على التقدم والإصلاح الدينيين أيضاً، وظل المجتهدون بين مشجع للغوغاء ومحايد، ليس لقناعة، إنما خشية على الجاه والمركز الديني، وهو كما نعلم لا يأتي عبر تعيين، بقدر ما يأتي عبر سعة جمهور المُقلدين، لكن بادرة الإصلاح لم تمت، إنما أظهرت بالكاظمية بعد دمشق والنَّجف، هذا ما سنراه في المقال القادم.

سار هبة الدِّين الشَّهرستاني على طريق المصلح المجتهد السيد محسن الأمين في محاولة تنقية مراسم عاشوراء من الفوضى، فإذا كان العلماء المصلحون تلمسوا الحاجة إلى إصلاح العزاء الحسيني، قبل أكثر من مائة عام، وإخوان الصفا قبل أكثر من ألف عام، فكم ستكون الحاجة مضاعفة وضرورية وها هي البشرية تعيش الألفية الثالثة، وعصر تأهيل السياحة إلى الفضاء!

فما فعله الشهرستاني، بعد الانتقال إلى الكاظمية غربي بغداد، عين ما فعله الأمين بدمشق، لقد “قلب سيرة الكاظمية في اليوم العاشر من المحرم من ضرب القامة إلى إقامة حفل عظيم تتلى فيه أسرار نهضة الحسين من قِبل أعلام الكتاب والشعراء، وثابر على ذلك سبعة أعوام، كانت نتائجها تملأ المجلات والصحف، وتُوجد الكتب القيمة في الموضوع نفسه. ومن نتائجها الأعداد الخاصة بذكرى الحسين لمجلتي البيان. كل ذلك كان يسعى إليه ليقلب صفحة التفكير، ويوقف النَّاس على فهم الدين الصحيح، وما يريده الأئمة (ع) من سعادة للنَّاس”(شعراء الغري).

لكن، لكل نهضة وحركة إصلاح أعداء، يذودون عن مصالحهم الخاصة وتجاراتهم، وإن كانت على حساب التقدم والتمدن، والالتحاق بالركب العالمي، وهذا ما لا يروق للمغرضين، فتكاثروا وحشدوا حولهم الجموع “لإرجاع العوام إلى حضيرة الجهل والفناء وتغلبوا”(نفسه) أخيراً اضطر صاحب الدَّعوة إلى اللجوء إلى بيته بعد يأسه من وجود مرجع مثل السيد أبي الحسن، يدعم الإصلاح. لجأ إلى بيته بعد أن قضى سنوات داعماً لإصلاح العزاء والنهي عن التطبير والتسوّط بالسلاسل واللطم، وكل المشاهد المؤذية، التي لا تترك سوى الحماسة للثأر، تلك التي كشف خطورتها إخوان الصفا وخلان الوفا من قبل ألف عام ويزيد (العاشر الميلادي).

لقد انتقد إخوان الصفا الجماعات نفسها التي انتقدها وتصدى ضد تجهيلها الروحانيان الأمين والشهرستاني، والاخوان والعالِمان كانا من الشيعة لا من خارجهم، قالوا: “ومن النَّاس طائفة قد جعلت التشيع مكسباً لها مثل النَّاحة والقصاص (سرد قصة الحسين بما يؤثر ويهيج العواطف) لا يعرفون من التشيع إلا التبري والشتم والطعن واللَّعنة والبكاء مع النَّاحة”(الرسالة السابعة، كيفية الدعوة إلى الله).

فمن دعوة الشَّهرستاني الإصلاحية تحريم الضرب بالقامة في عاشوراء “ونبذ العادات الوحشية من ضرب السلاسل”( الخاقاني، شعراء الغري)، ومن محاولاته للتغيير في طقوس عاشوراء إشغال العامة عن التطبير بالقامة والتسوّط بالسلاسل برعاية “حفل عظيم تتلى فيه أسرار نهضة الحسين من قِبل أعلام الكُتاب والشعراء، وثابر على ذلك سبعة أعوام. كانت نتائجها تملأ المجلات والصحف، وتوجد الكتب القيمة في الموضوع نفسه”. كل ذلك سعياً منه لقلب صفحة التفكير السائدة.

إذا كانت الأيام الخوالي بحاجة إلى هزة عقلية تفتح أذهان النَّاس على الإصلاح وبناء دولة تواكب بقية دول العالم، ولتوفر حياة لمواطنيها تتناسب ثقافياً وحضارياً مع عظمة الثَّرة فيها، فإن هذه الأيام بحاجة إلى مصلحين يأخذون على عواتقهم وقف هذا التجهيل الساري في عروق المجتمع.

المصدر