ياسين النصيِّر
أشعر وأنا أنتقل من القرية إلى المدينة أن شيئًا ما يلاحقني كظل، يمسك باقدامي ويشدني للعودة إلى الينابيع الأولى، بينما تتعلق يداي بأي شراع مهما كان حجمه، لأنطلق خارج حدود تلك القرية. كنا نلعب أحيانًا مع الماء الجاري ألعاب الملاحين المسافرين الكبار، وكنا ننظر إلى النهر على أنه الفاصل بين عالمي اليابسة والماء، فكنا نودع النهر أشرعتنا الصغيرة، نضعها على كرب النخيل سفنا محملة بالوداع، ندفعها بقصبة ولغة مبهمة، ونطلقها في النهر في ذلك الفاصل بين زمنين، مستعيدين بها من دون قراءة او سماع حكايات الليل، من أن النهر يستجيب لأي نداء خفي للحب، وغالبًا ما تنقلب الكربة على نفسها، ويبتل الشراع، وتتعطل السفرة كلها، كنار موقد انطفأت، ونفقد سفننا الأمل ، لأعود في اليوم الثاني لتكرار التجربة نفسها، مع نسيان ما حدث بالأمس، وكأننا لم نسمع حكاية الأشرعة المبتلة والموقد النفسي المطفأ. هكذا بدت حياتي مع كل شيء جديد نما في القرية كحلم ثم سعيت لأجعل منه حقيقة، وللأسف، أقول للأسف إني لم أنس أي حلم من أحلامي القليلة من دون السعي إلى تحقيقه، حتى لو مضت السنون عليه، فأنا قليل الأحلام بالتغيير، ولكن هذه القلة جعلتني أرى ما يراه المتنقل في قطار أحلام متباعدة، لقد وطنت نفسي منذ أن ولدت والى الآن في بيوت خمسة أو ستة: هي بيت الولادة في القرية، وبيت الزواج في البصرة، وبيت السكن والعمل الثقافي في بغداد، لأنتقل بعدها الى بيوت عديدة مؤجرة أعدها بيتًا واحدًا، في الاردن وسوريا، ومن ثم الاستقرار في البيت الهولندي؛ خمسة بيوت هي مجمل سفرتي في هذه الحياة، ولذلك عندما أعيد تحقيق أي حلم من أحلامي أشعر أن الاستقرار في البيت يعني نصف التنفيذ، إذ يمكنك أن تعيد تصورك مرات عديدة ما دمت تملك أرضا تستقر عليها، هكذا بدأ حلم السفر وحلم الثقافة، وحلم الكتابة، وحلم السياسة، وحلم لم يتحقق بعد، وثمة احلام صغيرة ترافق كحاشية الأحلام الكبيرة، فالمجرى يبقى ملاصقًا لكل حلم. ففي كل حلم ثمة رحلة شاقة، لكني كنت مطمئنًا أن أصل في نهاية الرحلة إلى قناعة بما أنا فيه. لا أطمح أن أكون متميزًا إلا بما أملك، فأنا لا أستسيغ أن أكون شخصًا متكئًا على أحد، عشت وحيدا لوالدي، وبقيت وحيدًا لأعمل طوال السنوات كلها، لن تصرف عليّ جامعة، ولا مؤسسة، ولا جهة سياسية أو حكومية، تعلمت خياطة طريقي بيدي، وعلمت أولادي الاعتماد على ما ينتجون، فالفلاحة ليست مختصة بالزرع بقدر ما هي طرائق عمل. الوسطية التي دأبت على التعايش والعمل في ضوئها، مكنتي من أحتفظ بعينين تريان جهتين من الطريق في آن واحد، وقدماي لا تسيران في أي اتجاه إلا للأمام، بالطبع ثمة اخفاقات هنا وهناك، ولكن بدا الأمر لي شيئًا عاديًا أن التقي في الطريق عشرات الصعاب والمثبطات، فالموانع إجابات مبهمة عن اسئلة ناقصة، هكذا أفكر في كل شيء. إن المسافة لا تقاس بالأمتار، انما بالفعل المتحقق. بعد كل جولة لي مع القراءة والكتابة أضع سؤالًا أمامي باستمرار: وهو هل حققت الشيء الذي أنشده من وراء هذا العمل أو ذاك؟ هذه المشاركة أو تلك؟ وكانت أجوبتي دائمًا هي البحث عمّا ينقص عملي، فالتجربة تعني ولادة ناقصة، عندئذ تكون المهمة المقبلة منطلقة من تصحيح الأخطاء السابقة، هكذا أجد أن كتبي ليست إلا سلسلة متراكمة من تصويبات للأخطاء السابقة، ثم أجد بعد مران، أنها وقعت في أخطاء جديدة، يعلمنا الوعي أن المسيرة من دون أخطاء ليست مسيرة، فالبحث عن الأشياء الجديدة يحتاج لأسئلة جديدة. دائما يكون العمل مبتدئًا بسؤال. أن تكون حديثا ومعاصرًا، ولك هدف ما، هو أن تعيش دوامة الأسئلة، الصواب منها والأخطاء، وأن تلتفت الى الوراء وانت تسير إلى الأمام، وألا تضع عينيك على شيء ذي نفع سريع، حتى لو كان الشيء نبت أشواك.. وأنا أحدث أصدقائي عن شارع حياتي، عن ذلك الفلاح المتنقل، أقول لهم: يكفي أحيانا صرة صغيرة مؤونة للرحلة المقبلة.المصدر