الحق في اقتسام الرواية.. إدوارد سعيد في ذكراه الـ17

628

نيويورك.. إدوارد يصحو على

كسَل الفجر، يعزف لحناً لموتسارت

يركض في ملعب التِنِس الجامعيّ

يفكِّر في رحلة الفكر عبر الحدود

وفوق الحواجز، يقرأ نيويورك تايمز

يكتب تعليقَهُ المتوتِّر، يلعن مستشرقاً

يُرْشِدُ الجنرالَ إلى نقطة الضعف

في قلب شرقيّةٍ. يستحمُّ، ويختارُ

بَدْلَتَهُ بأناقةِ دِيكٍ، ويشربُ

قهوتَهُ بالحليب، ويصرخ بالفجر:

لا تتلكَّأ!

على الريح يمشي، وفي الريح

يعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريح

لا بيت للريح، والريحُ بوصلةٌ

لشمال الغريب

هكذا رثى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش صديقه المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد، واصفا لقاء بينهما في نيويورك، وقال “التقيتُ بإدوارد قبل 30 عاما/ وكان الزمان أقلَّ جموحا من الآن/… قال كلانا: إذا كان ماضيكَ تجربةً/ فاجعل الغَدَ معنى ورؤيا!/ لنذهبْ، لنذهبْ إلى غدنا واثقين/ بِصدْق الخيال، ومُعْجزةِ العُشْبِ”

وقبل 40 عاما، كانت الساحة الفكرية العالمية على موعد مع صدور كتاب سعيد المفصلي “الاستشراق”، والذي أصبح خلالها أداة رئيسة في تفكيك البنية المعرفية لإنتاج المستشرقين، وعلاقته بالمشروع “الإمبريالي الغربي”.

الاستشراق

كمفكر ورائد في دراسات ما بعد الاستعمار، نظر سعيد إلى الاستشراق (كنظرائه ميشيل فوكو وآخرين) باعتباره توظيفا سلطويا للمعرفة بالشرق، بعد “شرقنته” وتنميطه، تمهيدا لاستعماره والسيطرة عليه.

في كتابه التالي “تغطية الإسلام”، رصد سعيد الطبيعة الاختزالية لدراسات الاستشراق وإنتاجه، وكيف تحولت إلى دراسات “إقليمية”، وتم استنفاد جهود باحثين جادين أو واعدين ليصبحوا في النهاية “خبراء مناطق”، يتم تجنيدهم في دوائر الاستخبارات والدبلوماسية والعسكرة الغربية.

بدورهم، اعتبر باحثون ومثقفون من ذوي النزعة النقدية حيال فكرة “السلطة” و”الدولة” الغربية الحديثة، “الاستشراق” سفرا أساسيا يرفعونه بمواجهة السرديات الأخرى عن الدولة والحداثة.

وقد عمد فيه إلى تفكيك وخلخلة نظرة الغرب إلى الشرق، ودحض الصورة النمطية التي اعتمد فيها المستشرقون على دارسات ومفاهيم قامت على أسس غير علمية.

وكشف في الكتاب علاقة الدراسات الغربية حول الشرق بالسلطة والنزعات السياسية، والاستثمارات الكبيرة التي خصصت لها، وكيف أصبح الاستشراق مذهبا فكريا -له خلفية سياسية- أنتج صورة عن الآخر (الشرق) برغبة تسلطية تحكمية استعمارية.

وبيّن كيف أثر ذلك المذهب في تشكيل الوعي الغربي، وخلق انطباعا سيئا لدى المتلقي الغربي عن الشرق، ونظرة سلبية مليئة بالتعصب ضد العرب والإسلام.

وبعكس ما اعتقده البعض، لم يتخذ إدوارد سعيد موقع الدفاع في كتابه، بل موقع المنتقد الكاشف لخطأ الغرب في مقاربته ورؤيته للشرق، وطرح مقاربة جديدة تسهم في ردم الهوة بين الشرق والغرب، من خلال احترام التعددية الثقافية وربط المعرفة بالنزعة الإنسانية بدل النزعة التسلطية الأيديولوجية.

واعتبر سعيد أن “الاستشراق” شكّل منذ أواخر القرن الـ18 أسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق، مؤكدا أن دراسة الشرق من قبل الغربيين هي دراسة منحازة مدفوعة بأغراض استعمارية، ووجهات نظر مسبقة، ونظرة دونية لشعوب الشرق مهما حاولت أن تبدو علمية وموضوعية.

لكن سعيد الذي توفي بالسرطان في 25 أيلول/سبتمبر 2003، لم يشهد كل تحولات ما بعد العصر الكلاسيكي للاستشراق الأوروبي، وخاصة بعد أن لم يعد العرب والإسلام مشمولين بمحاولة المعرفة والتفهم، بل الكراهية والكراهية والكراهية، بحسب حميد دباشي مؤلف كتاب “بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب”.

“القضية الفلسطينية”

لطالما كان إدوارد سعيد أبرز المفكرين الفلسطينيين المعترف بهم دوليا، ونُشر كتابه “القضية الفلسطينية” عام 1979، بعد عام واحد من إصداره أشهر مؤلفاته “الاستشراق”. ويناقش المؤلف في كتابه أوضاع الشعب الفلسطيني وتاريخ النكبة، وتجريد الفلسطينيين من أملاكهم وتشريدهم في المنافي، وتشويه قضيتهم في الغرب.

كما يتناول تطور الحركات السياسية الفلسطينية، وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية التي قادها يوما صديقه ياسر عرفات، وتغيّر مفاهيم المجموعات الفلسطينية إزاء مسألة الهوية اليهودية والدولة الإسرائيلية.

الكتاب الأخير

تساءل إدوارد سعيد في الكتاب الذي صدر بعد رحيله “عن الأسلوب المتأخر”، إن كان المرء يزداد حكمة مع تقدمه في السن؟ وهل هناك مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب العمر في الفترة المتأخرة من سير حياتهم؟

وركز المفكر الفلسطيني الأميركي (1935-2003) في كتابه -الذي ترجمه فواز طرابلسي ونشرته دار الآداب في بيروت (2015)- على الفترة الأخيرة أو المتأخرة من حياة الأدباء والفنانين الذين يتحدث عنهم وعن أعمالهم، تلك الفترة التي يسميها بفترة تحلل الجسد واعتلال الصحة، أو حلول عوامل أخرى تحمل إمكانية النهاية قبل الأوان حتى لمن لم يتقدم به العمر بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

يحمل الكتاب عنوانا فرعيا “موسيقى وأدب عكس التيار”، ويحوي 7 فصول، هي: “اللازمني والمتأخر”، و”عودة إلى القرن الـ18″، و”مدرسة العشاق، عند الحدود”، و”عن جان جينيه”، و”نظام قديم يتباطأ”، و”العازف المُعجز مثقفا” و”لمحات من الأسلوب المتأخر”.

وألحقت بالنص مقدمة المترجم، ومقدمة بعنوان “الموسيقى هي منفى اللغة” لمايكل بي ستاينبرغ، ومقدمة عن الأسلوب المتأخر لمايكل وود الذي يسرد حكاية جمع المحاضرات في كتاب، وبعدها مقدمة لمريم سعيد -زوجة الراحل- تدور في الفلك نفسه.

يتناول سعيد عبر مقارباته في الأدب والفكر تجارب تيودور آدورنو، وجان جينيه، وكافافي، ولامبيدوزا، وتوماس مان.

وفي التأليف الموسيقي باخ، وموتسارت، وبيتهوفن، وشتراوس، وغلين غولد، بالإضافة إلى الأوبرا والمسرح الإغريقي.

ويعتقد صاحب سيرة “خارج المكان”، أن كل امرئ يستطيع تقديم أدلة جاهزة للكيفية التي تتوج بها الأعمال المتأخرة سيرة حياة من السعي الجمالي. كما يتناول بالبحث التأخر الفني، ليس بما هو تناغم وانفراج، وإنما بما هو عناد وعسر وتناقض بلا حل، ثم يسأل: ماذا لو أن التقدم في السن وسوء الصحة لا ينتجان سوى هناءة القبول بأن “النضج هو كل شيء”؟

ويناقش صاحب “الثقافة والإمبريالية” ظاهرة الأسلوب المتأخر الذي أعطاه آدورنو معنى كثيفا وعميقا، في نص هام له عن الفترة الأخيرة من فن بيتهوفن، ويعود إلى فكرة التأخر بأكثر من معنى.

ويلفت إلى أن التأخر عند آدورنو هو فكرة البقاء على قيد الحياة في ما يتعدى المقبول والطبيعي، وكيف أن التأخر يتضمن فكرة مفادها أنه ما من أحد يستطيع أن يتعدى التأخر أبدا، ولا يستطيع التعالي عليه أو تجاوزه أو الإفلات منه، وأن كل ما يستطيع المرء فعله هو أن يعمّق التأخر.

يعتقد صاحب “الاستشراق” أن الأسلوب المتأخر أسلوب دارج، والغريب أنه منفصل عن الحاضر، ويقول إن قلة من الفنانين والمفكرين فقط يأبهون بما فيه الكفاية بمهنتهم للاعتقاد بأن المهنة تشيخ هي أيضا، وعليها أن تواجه الموت بأحاسيس وذاكرة فاشلتين.

ويحتل شتراوس موقعا مركزيا حاسما في تحريات سعيد عن الأسلوب المتأخر، فهو يصف أعمال شتراوس الأخيرة بأنها “متحدية”، ويعتقد أن التحدي هو التعبير الدقيق عنها. ويجد أنه عندما يغمر المرء شعور بالتأخر والإبهام لن تكثر عنده الخيارات، وموسيقى شتراوس في مرحلته المتأخرة هي التي تفرض عليه الخيار الوحيد المناسب له.

لا يخفى تداخل الذاتي بالموضوعي بالبحثي في بعض الفصول لدى سعيد في عمله، إذ يصوغ أفكاره ويرتبها بما يخدم موضوعه وقضيته، ومن هنا فكتابه يعكس أسلوبه المتأخر -أو الأخير- في الكتابة والفكر والموسيقى والأدب والفلسفة والحياة.

ويعتبر إدوارد سعيد أن أي أسلوب فني يتضمن بداية علاقة الفنان بزمانه أو بالحقبة التاريخية والمجتمع والأسلاف، موضحا أن النتاج الجمالي -على الرغم من فرديته غير القابلة للنقض- يبقى جزءا من العصر الذي أنتجه وصدر فيه.

وفي ختام قصيدة “طباق إلى إدوارد سعيد” قال درويش:

وأصرخ لتعلم أنَّكَ ما زلتَ حيّاً

وحيّاً، وأنَّ الحياةَ على هذه الأرض

ممكنةٌ، فاخترعْ أملاً للكلام

ابتكرْ جهةً أو سراباً يُطيل الرجاءَ

وغنِّ، فإن الجماليَّ حريَّة

أقولُ: الحياةُ التي لا تُعَرَّفُ إلاّ

بضدٍّ هو الموت… ليست حياة!

يقول: سنحيا، ولو تركتنا الحياةُ

إلى شأننا. فلنكُنْ سادَةَ الكلمات التي

سوف تجعل قُرّاءها خالدين -على حدّ

تعبير صاحبك الفذِّ ريتسوس…

وقال: إذا متّ قبلَكَ

أوصيكَ بالمستحيْل!

سألتُ: هل المستحيل بعيد؟

فقال: على بُعْد جيلْ

سألت: وإن متُّ قبلك؟

قال: أُعزِّي جبال الجليلْ

وأكتبُ: “ليس الجماليُّ إلاّ

بلوغ الملائم”. والآن، لا تَنْسَ:

إن متُّ قبلك أوصيكَ بالمستحيلْ!

عندما زُرْتُهُ في سَدُومَ الجديدةِ

في عام ألفين واثنين، كان يُقاوم

حربَ سدومَ على أهل بابلَ…

والسرطانَ معاً. كان كالبطل الملحميِّ

الأخير يدافع عن حقِّ طروادة

في اقتسام الروايةِ

نَسْرٌ يودِّعُ قمَّتَهُ عالياً

عالياً

فالإقامةُ فوق الأولمب

وفوق القِمَمْ

تثير السأمْ

وداعاً

وداعاً لشعر الألَمْ!

Original Article