ا.د. كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات و الترجمة – كلية الآداب – جامعة البصرة
[email protected]
كوفد-19 (covid- 19) مصطلح تم نحته من بدايات أحرف ثلاث كلمات هن على التوالي ((corona, virus, disease )) ، و الرقم (19) يشير إلى سنة اكتشاف الفايروس الذي ينتقل بين بني البشر و يقوم بشكل خاص على تعطيل عمل الرئتين و تلف الجهاز التنفسي. و يقوم الكثير من أهل العربية بتصويت / نقحرة (transliterating) الكلمتين (corona virus) قائلين (فايروس كورونا أو كورونا فايروس ) ، و فرقت العربية فيه بين الجانحة (endemic) التي تستوطن بقعة معينة و الجائحة (pandemic) التي تنتشر في أماكن كثيرة لا حصر لها. و من جهود المترجمين و اللسانيين العرب التي برزت مع انتشار الجائحة التعامل مع كم المصطلحات الجديدة المنحوتة مثل covidiot و covexit وcovideo party و quaranteams و غيرها كثير.
و بعد انتشار الفايروس انتشارا واسعا في مدينة ووهان الصينية، قامت الصين بنشر كتاب عن الفايروس و تداعياته بعنوان (حروب الدولة العظمى) لخصت فيه بداية ظهور الفايروس و أساليب التعامل معه و الوقاية منه بموجب التعليمات التي أصدرتها لجنة الصحة الوطنية الصينية و مكتب الدولة للطب الصيني و ترجمته من ثم إلى ست لغات . و تولت مصر ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية و نشر تقارير موجزة تتعلق بالتجربة الصينية في مواجهة الجائحة. و من جانبها قامت اسبانيا بترجمة و نشر العديد من التقارير و الكتب ذات الصلة بالفايروس متصدرة بقية دول العالم في هذا الشأن (جريدة المترجم العراقي-دار المأمون للترجمة و النشر – نيسان 2020).
و لعل من أهم ما فرضته الجائحة على بني البشر هو العزلة تحت شعار (stay at home – خليك بالبيت) طلبا للسلامة، و العزلة شرط أساس لكل من يريد أن يحقق انجازا في الترجمة. فالأخبار تقول لنا ، مثلا، أن المترجم العربي الكبير منير البعلبكي اعتكف في بيته أربعة عشر عاما من أجل أن يقدم لنا موسوعة المورد و كانت زوجته تقوم بجميع الواجبات الاجتماعية و
غير الاجتماعية نيابة عنه. و مؤخرا تحدثت التقارير أيضا عن فرض العزلة التامة على المترجمة الفرنسية كارول ديلبورت في أحد الأقبية لتقوم بترجمة أحد أعمال الروائي الأمريكي الأكثر مبيعا دان براون (https://rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=5747).
لقد أدى الاهتمام بانتشار الجائحة و انتقال العدوى بها و سبل مقاومتها و الشفاء منها إلى ازدهار حركة الترجمة الطبية العلمية من و بين لغات العالم المختلفة و خصوصا من اللغة الصينية موطن الوباء الأصلي و لغات مراكز البحوث و المستشفيات في العالم المتقدم إلى بقية لغات العالم و خصوصا تلك الناطقة باللغات المهيمنة كالإنكليزية و الألمانية و الفرنسية و بدرجة أقل الروسية. لكن مما تجدر الإشارة إليه هو أن الكم الهائل من تلك الترجمات (التحريرية) كانت تتم عبر الشبكة العنكبوتية العالمية بمواردها المختلفة من مواقع رسمية و صحفية و شخصية و مواقع التواصل الاجتماعي (توتر و فيسبوك و انستغرام و غيرها) علاوة على الترجمة الهاتفية و ذلك تطبيقا لمبدأ التباعد الفيزيائي (physical distancing) و الذي ميزه الكثير من المترجمين عن و فضله على التباعد الاجتماعي ((social distancing.
و إذا كانت الجائحة أثرت إيجابيا في ميدان الترجمة العملية و زيادة الترجمة في الميدان الطبي و على وجه الخصوص في ميدان الفايروسات و اللقاحات و الأدوية و المعقمات الكيميائية، فإنها أثرت أيضا في مجالات البحث و التدريس الترجمي الأكاديمي. فبسبب اغلاق الجامعات و منع الطلبة و الاساتذة من الالتحاق بقاعاتهم الدراسية خشية انتقال الوباء، اضطرت الجامعات إلى الخوض في تجربة التعليم الإليكتروني و اللجوء إلى المنصات المختلفة لإلقاء المحاضرات و الندوات و البصمات الصوتية مثل (telegram, zoom, google meeting, fcc, google classroom, edmodo) و غيرها. و بدأت اقسام الترجمة في جامعات العالم بالتعاون مع بعضها البعض في استقدام المحاضرين المحليين و العرب و الأجانب. و بدأ البحث أيضا في جانب ايجاد أفضل المنصات و الصيغ و الأسئلة الموضوعية و المقالية من أجل إخضاع الطلبة للامتحانات الفصلية و النهائية بالرغم من امتعاض الكثير من التدريسيين على ذلك من باب أن المترجمين الطلبة سوف لن يخضعوا للإشراف و المراقبة المباشرة و بالتالي عدم ضمان نزاهة النتاجات الترجمية و الفقرات البحثية.
غير أن الجائحة أثرت سلبيا بشكل كبير على قطاع الصناعة الترجمية (translation industry)، فمع زيادة اجراءات اغلاق الحدود و الأجواء و توقف الشركات أو تعليق العمل
فيها و انحسار قطاع السياحة تم تسريح الكثير من الموظفين ، و منهم المترجمين ، بسبب الضائقة الاقتصادية المترتبة عن تلك الظروف و عن توقف عمليات تصدير النفط و انحدار اسعاره إلى أدنى المستويات غير المسبوقة. و مثالا عن عمليات تسريح المترجمين هذه تلك التي تمت بشكل ملحوظ من شركات النفط المختلفة العاملة (المحلية الأهلية منها و العربية و الأجنبية) في حقول نفط البصرة جنوبي العراق.
و بسبب السعي الحثيث لمراكز البحوث في دول العالم المختلفة و زيادة التقارير الطبية الصادرة يوميا، أصيبت الدقة التي كانت مثار اهتمام الباحثين في الترجمة لسنين عديدة في بعض الأحيان بمقتل لا بسبب عدم كفاءة المترجمين أنفسهم بل بسبب تضارب التقارير المنشورة و المعلنة عن الفايروس و تغيرها من وقت لآخر مثلما حصل في تضارب تصريحات مسؤولي منظمة الصحة العالمية (الدكتورة ماريا كيركوف Maria Kerkhove ) بشأن ندرة انتشار الفايروس من المصابين الذين لا يظهرون أية اعراض و اضطرار المنظمة إلى تعديل ذلك التصريح https://www.foxnews.com/science/coronavirus-asymptomatic-spread-rare-who.
و في نطاق تدريب المترجمين (translator training) و توجيههم ، يمكننا الاستفادة من ارشادات منظمة الصحة العالمية (WHO) الصادرة بشأن الوباء و تطويعها لمصلحة المتدربين و المبتدئين في الترجمة. و يمكنني تسجيل و مقاربة تلك الارشادات بالنقاط الآتية:
– أبق بالبيت و تمرن دائما بالبدء بترجمة النصوص البسيطة (simple direct texts) أو المفبركة (fabricated and non-authentic texts) و لا تخرج للتعاطي مع النصوص الأدبية الخلاقة (creative and original texts) إلا بعد أن تكون واثقا تماما من أنك استكملت مهاراتك اللغوية و الترجمية (language and translation skills). التدريب مهم جدا ، و كان العراقيون أيام الحرب العراقية الإيرانية يقولون (التدريب ثم التدريب ثم التدريب. التدريب يقلل من دماء المعركة).
– كي تحصل على المناعة (immunity) اللازمة لوقايتك من القيام بترجمات خاطئة (mistranslations) لابد لك من ادامة التواصل دوما مع المترجمين المبرزين في الحقول المختلفة بتتبع اخبارهم و نشاطاتهم و حواراتهم و قراءة (reading) و دراسة (studying) ترجماتهم و خصوصا الترجمات الموازية (parallel texts) التي يتوفر فيها النص الأصلي و الترجمة معا و التعرف على مواطن القوة و الابداع فيها.
– عليك أن تعقم (sanitize) ترجماتك باستمرار و تخلصها من الشوائب و الأدران الناشئة عن الترجمة الحرفية (literal and word for word translation) و مما نسميه في الترجمة الأصدقاء الزائفين (faux amis) بتوظيف النصائح و الارشادات الترجمية في ممارستك المهنية الترجمية.
– حافظ و بصورة منتظمة على التعقيم ضد فايروسات الترجمة بقراءة النصوص المنتخبة و حفظ مقادير قليلة منها يوميا (كالقرآن الكريم و قصص طه حسين و ماركيز و شعر المتنبي و المعري و الجواهري و السياب و الشابي و غيرهم و مثلها في اللغة الأخرى) فمثل هذه النصوص تقوم بدور المعقمات (sanitizers) أيضا.
– بعد قيامك بترجمة نص ما حافظ على مسافة آمنة منه (safe distance) بينك و بينه. و إذا كان الأبداع في ترجمة النص الأدبي يتطلب التماهي التام (full identification) مع ذلك النص ، فإن القدرة على النظر فيه بموضوعية (objectively) لا تتأتى إلا من خلال التباعد لفترة معينة لكي يصبح بالمقدور رؤيته و تقييمه و تنقيحه على أفضل وجه.
– و مثلما على المصاب بالفايروس أن يتجنب الأماكن المزدحمة و ذلك لعدم توفر التباعد الاجتماعي المطلوب، فإننا ننصح المترجمين المتدربين (trainees) و المبتدئين (novices)
بالبحث عن أماكن ترجمية خاصة بهم. و نقصد بالأماكن الخاصة الولوج إلى نصوص قليلة الترجمة و جديدة كي يؤسس فيها المترجم أسمه و يحقق له ابداعا فيها.
– و مثلما عليك تجنب الاختلاط بالمصابين ، يتوجب على المترجم المتدرب و المبتدئ تجنب تداول الترجمات المنشورة من دون اسم المترجم أو التي كتب عليها عبارة (ترجمه نخبة من الاساتذة). و إذا كنا معافين فعلينا الاختلاط بالمعافين و الأصحاء و الأقوياء من المترجمين (مثل البعلبكي و طه محمود طه و الدروبي و جبرا و حياة شرارة و سلمى الخضراء الجيوسي و عبد الواحد لؤلؤة و غيرهم) و نتجنب الترجمات التجارية المقتطعة و الهزيلة و التي من دون اسماء مترجميها الفعليين.
– و إذا ظهرت عليك اعراض انتاج ترجمات ضعيفة و مفككة و غير دقيقة، راجع و على الفور الاختصاصيين في الترجمة (translation experts) و في اللغة التي تترجم إليها (language experts) طلبا للنصيحة. لا تترد في طلب المعونة و الدعم أبدا فذلك مما يجنبك الوقوع في الأمراض النفسية العظيمة التي لا حيلة في تجنبها أن قمت بترجمة مضحكة و تناولها النقاد و المدرسون بالعرض و الشرح و التحليل. ربما تكون التبعات و العواقب المادية أهون بكثير من التبعات و العواقب النفسية.
– و مثلما يتوجب على الجميع من دول و هيئات صحية التواصل مع منشورات بعضها البعض و مع منشورات منظمة الصحة العالمية، على المترجمين المتدربين و المبتدئين أن يبقوا على اطلاع و تواصل دائمين مع آخر منشورات جمعيات المترجمين المحلية و العالمية (newsletters and journals) و على نتاجات الترجمة (translations) و على البحث الترجمي (translation research) و الندوات (symposia) و الحلقات النقاشية الترجمية (translation seminars) و حفلات تواقيع الكتب المترجمة (book signing festivals) .
– و إذا كان تبرع المصاب المتعافي ببلازما الدم لغيره من المصابين يمثل واجبا أخلاقيا و انسانيا و دينيا ، فإن على المترجمين الذين يتعلمون و يكتسبون وسائل و طرق ناجعة في معالجة المشاكل الترجمية المختلفة نقل تلك الوسائل و الطرق لزملائهم المترجمين المتدربين المبتدئين .
– و مثلما ينصح الانسان في زمن الكورونا بتناول اقراص الفيتامين مثل سي و دي، فإن المترجم المتدرب و المبتدئ ينصح بدراسة و متابعة ما نسميه بكبسولات الترجمة (translation capsules) التي تقدم أعظم النصح و المشورة للمترجم بأبسط الطرق و أقصرها.
المقالة منشورة في كتاب الترجمة في زمن الكورونا: كوفيد -19 من اعداد و تحرير د. احلام حال. المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية و الاقتصادية و السياسية ، برلين ، 2020.