البعثات الدبلوماسية في الدول المارقة

410

وتعفى البعثات الدبلوماسية من الخضوع للقوانين الوطنية للدول المضيفة لها، حسب مبدأ (extraterritoriality) أو الخضوع لقوانين الدولة المُرسِلة للبعثة، وليس لقوانين الدولة المضيفة لها.

وتلتزم كل الدول بمبدأ الحصانة الدبلوماسية، لأن الجميع مستفيدون منه، مع ذلك، فإن هناك دولا تقودها أنظمة خارجة على القانون، تسمى دوليا بالدول المارقة، تستغل التزام الدول الأخرى بالقانون الدولي، فتنهك مبدأ الحصانة على أراضيها بدوافع سياسية آنية. لذلك لا يمكن دول العالم أن تثق بالدولة أو النظام الذي ينتهك القانون الدولي، وتحديدا قانون الحصانة الدبلوماسية الذي ينظمه “ميثاق فينا للعلاقات الدبلوماسية”.

وكل نظام انتهك حرمة البعثات الدبلوماسية بقي نظاما معزولا، لأن مثل هذا الانتهاك هو فعليا اعتداء على كل دول العالم، فمن يعتدي على بعثة دبلوماسية لدولة معينة، لن يمتنع مستقبلا عن الاعتداء على بعثات ومصالح ومواطني الدول الأخرى.

ولو تفحصنا تأريخ الدبلوماسية الدولية لرأينا أن معظم الدول، حتى البدائية منها، تحترم البعثات الدبلوماسية، وإن كانت هناك مشكلة مع أحد أفرادها، فإن الدولة المضيفة، التزاما منها بميثاق فينا، تطلب من الدولة المُرسلة أن ترفع الحصانة الدبلوماسية عن العنصر المتجاوز، كي تتمكن من محاسبته وفق القانون الوطني.

كثيرون يتذكرون أن الحكومة البريطانية طلبت من الحكومة الليبية أن ترفع الحصانة عن دبلوماسيين ليبيين، يُعتقَد بأن أحدهم أطلق النار على شرطية كانت تحرس السفارة أثناء احتجاج معارضين ليبيين أمامها في 17 أبريل عام 1984، لكن ليبيا رفضت الطلب فاضطرت بريطانيا، التزاما منها بقانون الحصانة الدبلوماسية، أن تسمح لجميع الدبلوماسيين الليبيين بمغادرة الأراضي البريطانية، مع علمها أن بينهم قاتل الشرطية إيفون فلاتشر.

وعندما دخل الجيش الأميركي بنما في ديسمبر عام 1989، لجأ رئيسُها، مانويل نورييغا، إلى سفارة الفاتيكان، ولم يلاحقه الجيش الأميركي إلى داخل السفارة، بل توقف خارج السفارة، يعزف الموسيقى الصاخبة لإزعاج نورييغا، حتى خرج منها وسلّم نفسه.

كثيرون يلجأون إلى السفارات طلبا للحماية، وتحترم السلطات مباني البعثات الدبلوماسية، ولا تدخلها حتى لو بقي اللاجئ فيها عدة سنين، وحتى لو كان مواطنا من مواطنيها ومعارضا لها، لكنه لجأ إلى سفارة دولة أخرى، كما حصل للمعارض الصيني فانغ ليجي وزوجتِه، اللذين لجآ إلى سفارة الولايات المتحدة في بكين، وبقيا فيها حتى سمحت لهما السلطات الصينية بمغادرة البلاد إلى أميركا.

الرئيس اللبناني الحالي، ميشيل عون، كان قد لجأ إلى السفارة الفرنسية في بيروت عندما كان قائدا للجيش اللبناني أثناء الحرب الاهلية اللبنانية، وبقي في السفارة حتى سُمح له بالمغادرة إلى باريس.

وفي العراق لجأ الشريف الحسين بن علي، مع زوجته وأطفاله إلى السفارة السعودية بعد قيام ثورة 14 يوليو عام 1958، وبقوا فيها حتى سمح لهم الزعيم عبد الكريم قاسم بالمغادرة إلى لبنان ثم إلى بريطانيا. رئيس أفغانستان المغدور، محمد نجيب الله، لجأ إلى بعثة الأمم المتحدة في كابل وبقي فيها 4 سنوات ونصف في ظل حكومة المجاهدين، حتى جاءت جماعة طالبان إلى الحكم فانتهكت حرمة البعثة الدولية واعتقلت الرئيس السابق، مع أخيه شاهبور، وعذبتهما حتى الموت ثم ربطت جثتيهما بعجلة جابت بهما شوارع كابل ثم علقتهما أمام القصر الرئاسي، منتهكةً بذلك كل القوانين والأعراف الدولية والقيم والمبادئ الدينية والذوق الإنساني العام، ومزدريةً كلَّ النداءات والاستغاثات الصادرة من الدول الإسلامية والمنظمات الدولية.

حرمة البعثات الدبلوماسية لا يتجاوزها أي نظام وأي دولة، سوى الدول المارقة والأنظمة الإرهابية، التي لا تحترم القانون الدولي، ولا حقوق الإنسان أو القيم الدينية ومبادئ العدالة، ولا تكترث للأعراف والمواثيق الدولية.

لم تعتدِ دولة في التأريخ الحديث على البعثات الدبلوماسية ورعايا الدول الأخرى في بلادها كما فعل نظام ولاية الفقيه في إيران، ونظام طالبان في أفغانستان، وهذا السلوك يعطي صورةً حقيقية عن هذين النظامين اللذين لا يمُتّانِ للعالم المعاصر بصلة. وإن كان نظام طالبان قد سقط بسرعة نتيجةً للرفض العالمي الواسع له، بسبب غباء قادته وجهلهم بأبسط نظُم الحكم والقوانين والأعراف والأنظمة الإدارية، فإن النظام الإيراني سيبقى منبوذا دوليا حتى يتغير ويعتذر عن تجاوزاته على الدول الأخرى، خصوصا العراق، وانتهاكاته للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

أول “مأثرة” لنظام ولاية الفقيه في إيران كانت احتجاز 52 دبلوماسيا أميركيا في السفارة الأميركية في طهران في الرابع من نوفمبر 1979 وإبقاءهم محتجزين لأربعمئة وأربعة وأربعين يوما، وقد كان هذا الرقم مقصودا على ما يبدو، كي يبقى محفورا في الذاكرة العالمية باعتباره إنجازا عظيما للنظام الجديد!

وبعد تلك الحادثة الشهيرة، واصل النظام الإيراني استهداف الإيرانيين في الخارج، وأبرز مثال هو اغتيال رئيس وزراء إيران في عهد الشاه، شاهبور بختيار، مع مساعده الشخصي سوروش كتيبة، في بيته في باريس في 6 أغسطس عام 1991، على أيدي ثلاثة قتلة إيرانيين استخدموا سكاكين المطبخ في قتل المغدوريْن! كما استهدف النظام الرعايا الأجانب في إيران، بمن فيهم الإيرانيون من حملة الجنسيات الأجنبية، الذين يأتون لزيارة بلدهم، إذ يُحتجزون ويحكمون بتهم شتى، أولاها التهمة الجاهزة وهي “التجسس” لصالح الدول الغربية التي يتوهم قادة النظام الإيراني، بأنها تنشغل ليلَ نهار بتتبع أسرارهم وخططهم لتدمير بلدهم والبلدان المجاورة!

استهدف النظام الإيراني سفارات دول أخرى ومنها سفارة المملكة العربية السعودية في طهران، التي أحرقها الغوغاء بتحريض واضح من النظام، في يناير من عام 2016، بينما كان بإمكانه أن يقدم احتجاجا رسميا للسفارة السعودية إن كان هناك ما يريد الاحتجاج عليه. كما هاجم الغوغاء القنصلية السعودية في مدينة مشهد الشيعية المقدسة، دون أي احترام لطبيعتها الدينية.

مهاجمة السفارات والاعتداء على الدبلوماسيين أفعال تقوم بها الجماعات الإرهابية فقط، لأنها لا تخضع لأي قانون سوى قانون الغاب. فقد اغتال إرهابيون ينتمون إلى تنظيم القاعدة السفير المصري في العراق، إيهاب الشريف، في يوليو من عام 2005. كما هاجمت جماعة “أنصار الشريعة” الإرهابية السفارة الأميركية في بنغازي وقتلت السفير كريستوفر ستيفنز، في 11 سبتمبر من عام 2012. جماعة إرهابية بيروفية تعرف باسم “توباك أمارو” هاجمت منزل السفير الياباني في عاصة بيرو، ليما، أثناء احتفال وطني ياباني، واحتجزت مئات الدبلوماسيين من دول مختلفة كانوا يحضرون المناسبة، وبقي معظمهم محتجزين لـ 126 يوما، حتى اقتحم الجيش البيروفي منزل السفير الياباني وقتل الإرهابيين وأطلق سراح المحتجزين.

وقد تعرضت البعثة الدبلوماسية الإيرانية في مزار شريف في أفغانستان إلى اعتداء إرهابي أيضا، عام 1997، وقتل كل من فيها، وهم 10 دبلوماسيين وصحفي على أيدي جماعة أفغانية/باكستانية متطرفة.

انفرد النظام الإيراني الحالي بالاعتداء على البعثات الدبلوماسية، واضعا نفسه، بمحض اختياره، إلى جانب الجماعات الإرهابية الخارجة على القوانين والأعراف الدولية، بل وأخذ يؤسس المليشيات المسلحة ويدربها ويدعمها لتعتدي على الناس والمؤسسات الاقتصادية والبعثات الدبلوماسية في دول أخرى، كالعراق، بصواريخ الكاتيوشا، وتمارس الخطف والقتل والسرقة. لذلك لا يمكن المجتمع الدولي أن يثق بالنظام الإيراني، مهما أبدى من (مرونة) مصطنعة، لأن تأريخه وأفعاله، التي لم يعتذر عنها حتى الآن، بل يتباهى بها، تدينه وتضعف الثقة بكل خططه ومزاعمه.

يأمل النظام الإيراني أن يُقبل دوليا وأن تُرفع عنه العقوبات الدولية والأميركية وأن يُعامل كباقي دول العالم، في حال فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، في الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكنه ينسى، أو يتناسى، أن احتجاز (الطلبة السائرين على خط الإمام) 52 دبلوماسيا أميركيا وإبقاءهم محتجزين كرهائن لـ 444 يوما، كان قد حصل في ظل رئيسٍ ديمقراطيٍ معتدل هو جيمي كارتر، ولو كان قادة النظام الإيراني يفقهون في السياسة أو يحترمون القانون، أو يطمحون لإقامة دولة عصرية، لكانوا قد التزموا القانون الدولي وتعاملوا مع الإدارة الأميركية تعاملا دبلوماسيا وتمكنوا من حل أي مشكلة عالقة عبر الحوار والقوانين الدولية.

وينسى قادة النظام الإيراني أيضا أن الاعتداءات المتكررة على السفارة الأميركية في العراق، التي يعرف الجميع أن إيران تقف وراءها، لا يمكن أن تقبلها أي إدارة أميركية، ديمقراطيةً كانت أم جمهورية، ولا أي دولة أخرى في العالم، ناهيك عن الدولة المعتدى عليها ابتداء، وهي العراق. فالاعتداء على القانون الدولي وانتهاك سيادة الدول الأخرى يهم كل الدول.

الحكومة العراقية مطالبة بملاحقة الجماعات التي تأتمر بأمر النظام الإيراني في العراق، والتي تسرق أموال الدولة وتقتل وتخطف العراقيين وتهاجم البعثات الدبلوماسية الأجنبية، لأن هذه الجماعات تنتهك القانون العراقي ابتداءً، والقانون الدولي انتهاءً، وأن مسؤولية الحكومة العراقية هي حماية العراقيين والبثعات الدبلوماسية الدولية في العراق.

دول العالم لن تنسى انتهاكات إيران للقانون الدولي ولسيادة الدول الأخرى، والطريق الوحيد أمام النظام الإيراني هو أن يسلك سلوك الدولة الحديثة، ويعتذر عن تجاوزاته السابقة، ويتوقف عن دعم الإرهاب في الدول الأخرى. أما ما يحصل داخل إيران، من تجاوزات على حقوق الإنسان، فهو شأن الشعب الإيراني الصابر، بالدرجة الأولى، ولكن المجتمع الدولي مطالبٌ أيضا بمساندة قوى السلام والديمقراطية في إيران كي تساهم في جعل هذا البلد بلدا طبيعيا منسجما مع باقي دول العالم.

النظام الإيراني يتستر بالانتخابات الشكلية التي يجريها كل أربع سنوات كي يقدِّم نفسه للعالم على أنه نظام ديمقراطي يحظى بتأييد الشعب الإيراني! لكن الحقيقة التي يعرفها المطلعون أن الانتخابات الإيرانية ليست حرة ولا ديمقراطية، ولا يمكن أحدا غير تابع للنظام أن يرشح فيها، فهي للمؤمنين بولاية الفقيه حصرا، ولا تختلف كثيرا عن انتخابات النظام العراقي السابق أو النظام السوري الحالي، لأنها تُبقي على الممارسات الدكتاتورية نفسِها، وتأتي بالطبقة السياسية نفسِها، مع تغييرٍ طفيفٍ هنا وشكليٍ هناك. العالم ينتظر تغييرا حقيقيا وجذريا في بنية النظام الإيراني كي يمنحه ثقته ويبدأ في التعامل مع إيران كدولة طبيعية.

المصدر