الإنسان المُتحضر والإنسان المُتهور
محمد كريم إبراهيم – محلل وكاتب عراقي
الفرق بين الشخص المتحضر المتعلم والمتربي وبين الشخص المتهور المزاجي والانفعالي هو شاسع جداً, ويمكننا معرفة الأول من الثاني خلال لحظات من إلتقاء حتى أغرب الغرباء. لكن في نفس الوقت نراهما منفصلنا عن بعض, كأنما خلقا من مادة مختلفة, يحاول كلاً منهما إتباع أهداف معينة في الحياة النابع من عقلهما الموروث والمؤدب. هذه الفروقات التي تنزع التهور من الإنسان المتحضر وتمنع المتهور من التحضر ما هي إلا سراب سطحي, علينا أن نبحث بعمق عن شبكة الخيوط التي تربطهما معاً, وعلينا أن نعلم كيف نجعل الشخص المتهور يصبح متحضراً, وكيف لشخص متحضر إلا يفرط في تحضُره.
جميعنا ولدنا متهورين، لا نعلم شيئاً عن العادات والتقاليد، عن الحرام والحلال، عن ما يؤذي ويضحك. كنا يوماً في طفولتنا نفعل ما هو تلقائي، نتصرف من خلال عواطفنا، ونعبر عن جميع مشاعرنا، حسنة كانت أم سيئة، ولا نكبت أي شيء في داخلنا. لكن مع مرور الزمن, كسبنا معلومات وتجارب ودروس تعلمنا من خلالهم لعبة الحياة داخل المجتمع خارج عن دائرة أنانيتنا، وتمكنا من الخضوع لقوانينهم وأخلاقياتهم ومبادئهم. إلا أننا لا نزال نحتفظ على الجانب المتهور منا، فهو في داخلنا مكبت ومقيد، نادراً ما يظهر وجهه بين حينٍ وآخر.
الدماغ الأعلى والدماغ الأدنى
ينقسم دماغ الإنسان إلى أثنين: أحداهما بدائي أو ما يسمى ب”الدماغ الأدنى”، وهو بسيط التركيب ويقوم بوظائف أساسية مثل التحكم بعضلات التنفس وعضلة القلب، وموازنة الحرارة والمواد الكيميائية. بالإضافة إلى ذلك، فهو يقوم بالإستجابة إلى مؤثرات بيئية بشكل سريع ومباشر ولاأرادي، عن طريق التحكم بعضلات الجسم. فكر مثلاً عندما تحاول تقريب يدك نحو النار أو ملامسة الإبرة، تقوم الأعصاب الموجودة في عمودك الفقري بالإستجابة مباشرةً لهذا الحدث من دون اللجوء إلى إستشارة الدماغ. [1]
كذلك الأمر عندما نشعر بالخوف شديد، فجسمنا يبدأ بشكل سريع بالإستجابة على تلك المؤثرات، ويبدأ المشاعر بالتحكم بعقولنا ومنطقنا، فلا نستطيع في الغالب التفكير بصواب. [2]
أما الدماغ الثاني للإنسان هو الدماغ المنطقي أو ما يسمى ب”الدماغ الأعلى”، وهو معقد ومتشابك ومرن، حيث تتصل مجموعة من الأعصاب مع مجموعة أخرى لكي يقدموا على إنتاج تصرف مناسب لحدث مناسب[3] . هذا الدماغ يكون أبيض فارغاً عند الولادة، وتكون الإتصالات بين الأعصاب بسيطة وقليلة، مما يفسر تهور الطفل. تزداد الإتصالات بين هذه الأعصاب عن طريق ثلاثة أشياء:
أولاً – عن طريق الأخطاء: عندما يخطأ الطفل ويعود هذا الخطأ عليه بشعور سيئ وخسارة، يتعلم عنده إن لا يستمر في فعل ذلك التصرف الذي أدى إلى تلك النتيجة. فبالتالي يتكون هناك تواصل بين الأعصاب التي تمنع من مباشرة الجسم بالقيام بذلك التصرف.
ثانياً – عن طريق التعلم من الاخرين: كلنا نتعلم من الآخرين عندما يخطأون أو عندما يصوبون، فنأخذ منهم تلك الحكمة أو المعلومات لكي لا نقع نحن بذلك الخطأ أو لكي نسلك دربهم لننجح في الحياة. وهذا يؤدي حتماً إلى تكوين ترابطات جديدة بين الأعصاب الدماغ الأعلى التي تثبط بعض الأحيان من القيام بنفس تصرف الآخرين الذين فشلوا وتأذوا، وتُنشط أحياناً أخرى للقيام بنفس الأفعال الذين نجحوا وأغنموا.
ثالثاً – عن طريق المنطق الإسقاطي: يستطيع عقولنا أن يفكر في المستقبل، أو أن يوسع من تأثير الأحداث، أو يربط بين حدثين أو شيئين متشابهين أو مترابطين بشيء ثالث. لم يشرح العلم إلى حد الآن كيف تجري هذه العملية في الدماغ. ومنطق الإنسان أما يكون صائباً أو مغالطاً.
الدماغ الأعلى هو الدماغ الذي يجعل الإنسان المتحضر متحضراً، وهو الذي يجعله ابناً لبيئته، وجزءاً من مجتمعه، ومفكراً بالمكآفات والعواقب، ورابطاً للأقوال والأفعال الحاضرة مع مستقبله. والتحضر لا يعني التمدن، بالرغم من كون التمدن جزءاً من التحضر (ويمكننا حتى القول بإن غالبية المتحضرين يتواجدون في المدن أكثر مما هم متواجدين في المجتمعات الصغيرة)، فالتحضر هو أكبر من التمدن، فهو يعني إن الإنسان اينما كان – في المدينة أم في الريف أم في الطبيعة – يتغير أتجاه أقواله وأفعاله من التلقائية إلى التفكيرية، من الجسدية إلى الكلامية، من المشاعرية إلى العقلانية.
لا تفهم الأمر خاطئاً، لا تزال التهور موجوداً داخل الإنسان المتحضر، لإن التهور وجد من الوراثة ومن خلال الجينات، فهو جزءٌ أساسي من هويتنا، وشخصية رئيسية من إنسانيتنا.
ويمكن (وبأحتمالية عالية) أن يتصرف الإنسان المتحضر بتهور عند غياب المجتمع أو عندما لا يكون التحضر ذات منفعة له أو عندما يضيق به الحال فيلجأ إلى تصرفات بدائية كتأذية الآخر جسدياً بدلاً من مجادلته كلامياً. ولا بأس في ذلك، كما قلنا إن التهور جزء منا، ونحن تشكلنا بواسطته، بل إن التفكير والمنطق لا يبدأ من دون المشاعر البدائية المحفزة ولا ينتهي إلا بإرضاء تلك المشاعر (اما بالتخلص من المشاعر المؤذية أو بالزيادة من المشاعر المسلية)[5] .
التهور والتحضر الوراثي
يعتقد البعض إن المشاعر ترتبط مع التهور، والمنطق مع التحضر. الأمر في الحقيقة ليس كذلك، حيث أن المشاعر والمنطق مرتبطان معاً داخل نفس الدماغ، فلا يستغني أحداهما عن الآخر. فالمشاعر هي غايات، والمنطق هو الوسيلة لبلوغ تلك الغايات. ولا يوجد عيبٌ في غلبة أحدهما على الآخر في بعض المواضع ما داما متقاربان من بعضهما[4] .
لكن يحدث هناك بعض التخللات في التوازن يجعل شخصاً ما متهوراً أكثر مما هو متحضر، والآخر متحضراً أكثر مما هو متهور، وهذه التخللات هي جينية أكثر مما هي بيئية، أي إنها تظهر من وراثة الإنسان بدلاً من تربيته ومجتمعه. قد تكون تلك الإضطرابات في كمية المشاعر التي يشعرها الإنسان بغض النظر عن الأحداث، حيث نرى إن الإنسان المتهور يكون مشاعره حاداً، فيكون مفرط الغضب في موضع الغضب، وشديد السعادة في حالات السعادة، وإلى غيره من المشاعر التي تكون مبالغاً فيها إذا قارناها مع مشاعر الشخص العادي، وقد لا تكون الوضع والمشكلة لا تتطلب تلك الكمية الهائلة من المشاعر اتجاهها. وهذه المشاعر الحادة تدفع الفرد نحو التهور من خلال تشويش منطقه وجذبه بلتفكير في كيفية إرضاء تلك المشاعر، فيتحول حياته ولحظاته إلى ذلك. وتصبح جل أهتمامه إطفاء المشاعر الهائجة من الغضب والجنس والإنتقام والإزعاج والتسلط بطرق سريعة وبدائية مثل إطفاء الرغبة الجنسية بالإغتصاب، وإطفاء المشاعر الإنتقامية والغضب بالقتل والأعتداء الجسدي. وكذلك يرغب المتهور في زيادة من مشاعره الممتعة والمسلية إلى درجة عالية قد تؤدي إلى موته، فهو الشخص الأكثر أحتمالية على الإفراط في الأكل أو الإدمان على الكحول والمخدرات. بالإضافة إلى صفة المشاعر الحادة للمتهور، فهو عادةً يكون نافذ للصبر، مستعجل في أموره، سريع التصرف، تلقائي في أقواله وأفعاله، لا يقدر على التقيد بالمسؤولية بسبب عواطفه الجامحة.
أما صفات الإنسان المتحضر فهو عكس المتهور، أي إنه يتسم بالصبر والتأني في حاجاته ورغباته، ويشبع مشاعره بطريقة منطقية وعقلانية، ويجد سبلاً ذكية لمحاربة الآخرين مع الألتزام بالأخلاقيات والقوانين. فهو شخص يفكر بالمشاعر في بدايات الأمور ونهايتها فقط، ولا يفكر فيهم في وسط الأحداث أو في خضم العملية؛ مثلاً، عندما يأتي مشاعر الإنتقام، فهو بذلك الشعور يبدأ رحلته التفكيرية نحو إطفاءه، فلا يفكر مرةً ثانية بالمشاعر التي حفزت هذا التفكير وجعله يقوم بتلك الأقوال والأفعال والخطط الإنتقامية، لا، بل هو يركز على الخطة وكيفية تنفيذها وتنجيحها منطقياً، وسيلته تكون موضوعية مجردة من العواطف والمشاعر، حتى يبلغ ما يريده، حينها في النهاية، يفكر في مشاعره التي بدأت تلك الرحلة، ويفكر في غايته التي أراد فيها إطفاء هذا الشعور الإنتقامي. ومن صفاته الأخرى هي الألتزام بالمسوؤلية، التمسك بالأخلاق، عدم تغيير رأيهم وموقفهم بسبب العواطف فقط، وتبني فلسفة محددة في الحياة.
التحضر المفرط والكآبة
قد يكون هناك تحضر مفرط عند الإنسان كما يوجد هناك تهور مفرط. ففي تلك الحالة، يصبح الإنسان المتحضر صلباً غير مرناً لا يتزحزح من أراءه وأفكاره حتى لو كان مخطئاً، ولا يترك فلسفته أبداً حتى لو كان ذلك مؤذياً لذاته وللآخرين. وقد يحمل نفسه مسؤولية عظيمة لا يمكن للفرد تحمّلها ويؤدي به إلى الهلاك. وربما لا يكون العالم حسب تشكيلة معتقداته وفلسفته، فيشرع إلى تغييره فيفشل، فيصيبه الكآبة وخيبة أمل. وعندما يشعر بأنه لا يؤدي واجبه ولا يحمل مسؤوليته بشكل تام، يصيبه قلقٌ وتوترٌ شديد. لكن الإفراط نادر في الطرفين (المتحضر والمتهور).
أثنانهما – التهور والتحضر – طبيعيان عند الإنسان، فلا أحد أفضل من الآخر، لكن الأحوال والأوضاع والأماكن والأزمان قد تفضل أحداهما على الآخر. ففي السابق كان التهور شيء مفيد جداً للإنسان، لإنه مكنه أن يتصرف بسرعة وبتلقائية لصد الخطر والدفاع عن النفس بالوقت المباشر حين لا تفيد الأفعال بعد فوات الآوان، وكذلك لجأ الإنسان إلى التعبير عن مشاعره بأفعال بدائية جسدية – حيث الربط بين المشاعر والجسد كانت مباشرة دون خضوع المشاعر لنقطة تفتيش المنطق والتفكير العميق – يساهم في حل المشاكل بطرقٍ سريعة لم يحتج إلى التفكير في عواقب المستقبلية البعيدة.
التهور لا يزال يجري في عروقنا
لكن اليوم، في عصر الحضارات والمجتمعات، تحول التهور والتلقائية إلى عدو للإنسان المتحضر، تحول إلى رذيلة عند الإنسان المتحضر الذي لا يحتاج إلى أتخاذ قرارات بسرعة، ولا يشعر بالخطر أتجاه حياته في غالبية الأوقات. أصبحنا الآن لا نقدر المشاعر المعبرة بآنية، المشاعر التي لا تكسوها أياً من المنطق والتفكير. لكي تغضب وتفرح وتحزن وتخاف داخل الحضارة، عليك أولاً التفكير في الموقف، والتأكد من الأسباب، والتأمل في المستقبل[6] . وفوق كل هذا، عليك أن تخفف من حدة التعبير، عليك أن لا تظهر عواطفك بأكملها أمام الناس سواءاُ كنت فرحاً أم حزيناً، غضباناً أم خائفاً.
تلاشت التعبير الجسدي أيضاً داخل الحضارة، حيث أصبح كل شيء داخل المجتمعات عبارة عن حوارات منطقية وتبادلات فكرية وتعاملات أخلاقية وقانونية، لا يوجد مكانٌ يرتبط فيه المشاعر بالجسد مباشرةً سوى في الخلاء أو في السجون أو المصحات المجانين.
بالتأكيد لا يزال هناك إنسان متهور داخل الإنسان المتحضر، حتى لو أظهر ذلك الإنسان تحكمه بمشاعره وأفعاله التلقائية الجينية. فالتهور إرثُ ورثناه من السابقين، ولن تذهب عنا أبداً، ولا يمكننا تجاهله للأبد. إلا إن ثمن التحضر والتواجد داخل المدينة ذات مجتمع كبير وذات قوانين محددة وأخلاقيات متوقعة يجبرنا على ترك شخصيتنا المتهورة، والتأقلم مع المنطقية، وتعلم آدابهم وسلوكياتهم في التعامل مع المشاكل البشرية. إنها مقايضة، عملية تحول من التهور إلى التحضر، يجب أن يمر بها كل طفل وطفلة، وكل من أراد العيش بيننا في هذا العصر.
المراجع:
1- https://bouve.northeastern.edu/nutraumaticbraininjury/braintbi-anatomy/brain-functions
2- https://courses.lumenlearning.com/boundless-psychology/chapter/structure-and-function-of-the-brain/
3- Tranel D., Cooper G., Rodnitzky R.L. (2003) Higher Brain Functions. In: Conn P.M. (eds) Neuroscience in Medicine. Humana Press, Totowa, NJ. https://doi.org/10.1007/978-1-59259-371-2_29
4- Christopher Ryan. 2011. Does Civilization Make Us Happy? What kinds of freedom lead to happiness?. Psychology today: https://www.psychologytoday.com/us/blog/sex-dawn/201103/does-civilization-make-us-happy
5- Alexander, J. C. 2013. The Dark Side of Modernity. Cambridge, UK, and Malden, MA: Polity.
6- Brett Bowden. 2016. Civilization and Its Consequences. Oxford handbooks online: https://www.oxfordhandbooks.com/view/10.1093/oxfordhb/9780199935307.001.0001/oxfordhb-9780199935307-e-30