الإمام الفخر الرازي في ذكرى ميلاده الـ900.. احترمه التتار ومدحه ابن خلدون وصاغت مؤلفاتُه معارفَ الأيوبيين والعثمانيين
من أين يمكن البدء عند رواية قصة عَلَم عظيم مثل الإمام فخر الدين الرازي؟ فعلا نحن إزاء عالَم معارف رحب متسع تصعب الإحاطة بمشاربه، وفضلا عن تشعبه من العسير تأطير مساربه؛ فالرازي حقيقةً كان موسوعة معرفية تدب على قدمين وتلاقت عندها الأصول: الاعتقاد والفقه والتفسير والفلسفة الناقدة، والمعارف الصوفية والحكم العالية، ودروس الأدب والمناظرات، ومكائد التعصبات المذهبية والصراعات السياسية!
وقد جاء حصاد ذلك في عشرات المؤلفات التي تتمدد مضامين العديد منها بين ضفاف مجلدات طوال، وتتسلسلَ في إحياء وإصلاح تعتّق وتكوّن على أيدي سلاسل من نوابغ العلماء والفقهاء الكبار، الذين ربطوا وحدة الأمة بإصلاح المعتقد وترسية مباني ومعاني التوحيد. وهذا المقال يريد أن يصل تلك المناطق المقطوعة بين مؤرخي الفكر ومؤرخي السياسة ومؤرخي الشريعة.
فالرازي لم يكن مفكرا هامشيا بل كان في صلب هموم حضارته وثقافته، وعصر الرازي هو من أدهش العصور لكونه الصفحة التي اجتمعت فيها عوامل المقاومة والنصر مع معاول الهزيمة والاستعمار، وهي تلك الفترة التي تحركت فيها سلطة العلماء والمؤسسات الأهلية لترأب تصدعات الأنظمة السياسية. وهذا النموذج من التحدي والاستجابة من أغنى النماذج في الدراسة والبحث، خصوصا حينما يكون الفكر في مسقط الوعي السياسي والقوى الطليعية، على غرار الحركة الأيوبية والعثمانية اللتين مارستا إصلاحا واضحا وتبنّتا نهجا قاطعا في موقفهما الشرعي والفكري.
منذ تسعمئة عام حين وُلد الإمام الرازي الذي نحتفي اليوم بحلول مئوية ذكرى مولده السنة القادمة؛ كان هناك فقيه يخطب بالعربية والفارسية ويقرض بهما الشعر، ويذرع المشرق ذهابا وإيابا مناظرا ومحاضرا ومؤلِّفا، ثم يختم حياته مردد في وصيته عند الوفاة: “ديني متابعة محمد سيد المرسلين وكتابي هو القرآن العظيم”، ثم يخاطب ربَّه مناجيا: “فلتكنْ رحمتُـك مع قصْدي لا مع حاصلي”!!
بين ضفتين
هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري؛ كما ينسبه المؤرخون، على أن الإمام الشوكاني (ت 1250هـ/1834م) يقول ضمن ترجمته لأحد أحفاد الرازي العلماء في ‘البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‘: “وكان الإمام (= الرازي) يصرح في مصنفاته بأنه من أولاد عمر بن الخطاب”.
وقد وُلد الرازي سنة 543هـ/1148م بمدينة الرَّيِّ (= طهران حاليا) التي كانت إحدى الحواضر العظيمة في بلاد فارس، فأخذ العلم على والده عمر بن الحسن الذي كان عالما شافعيا أشعرياً يلقب “الإمام ضياء الدين” وهو خطيب المدينة، ولذلك أصبح الرازي يُعرف -في كتب التراجم والتاريخ- بـ”ابن خطيب الرَّيِّ” أو “ابن الخطيب” اختصارا.
وهكذا اقترن انتساب الرازي للمذهبيْن الفقهي والعقَدي الأشعري بالميلاد والرحِم والتعلم وأخذ المسانيد عن والده؛ فقد كان يبالغ في تقدير والده ويصفه “بالإمام السعيد”، ونجده يذكره في مواضع متعددة من تفسيره راويا عنه فيقول: “سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول..”، “وسمعت والدي رحمه الله يقول..”! وتذكرنا عبارات الرازي عن والده التي اتسمت بالتقدير والوفاء بسلوك تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) تجاه والده تقي الدين السبكي (ت 756هـ/1355م).
عاش العالم الإسلامي في عصر الرازي بين ضفتيْ النصر والهزيمة؛ ففي حين كان لا يزال يحتفي بانتصار حطِّين على الصليبيين سنة 583هـ/1187م، كانت معاقلُه -لحظةَ وفاة الرازي- تتهيأ لمواجهة خاسرة غربا مع ملوك المسيحيين بالأندلس في معركة العِقاب (= جمع عَقَبَة) سنة 609هـ/1212م وما تلاها من معارك، واجتياحات موازية كانت تتجمع في الأفق شرقا لتطوي بساط الهيمنة من تحته تدريجيا بدكّ سنابك خيل التتار لمعاقل دولة الخلافة!
والحق أن ذلك الأثر الإصلاحي الكبير ما كان ليحدث لولا الرفع آنذاك من شأن “سلطة العلماء”؛ فقد كان الرازي وارثا لتراث ضخم تركته طليعة علمائية نهضوية كبرى، بدأ ظهورها مع مطلع القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي وتواصلت أجيالها طوال عقوده، فمثَّلها أئمة فقهاء عظماء كانوا جميعا من علماء الكلام وفي معظمهم من المدرسة الأشعرية، وأشهرهم: الباقلاني (ت 402هـ/1012م) والماوردي (ت 450هـ/1059م) في مركز الخلافة بالعراق؛ وابن حزم (ت 456هـ/1065م) وأبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1082م) في الغرب الإسلامي؛ والجويني (ت 478هـ/1086م) والغزالي (ت 505هـ/1111م) في الجناح الشرقي من الخلافة.
صراعات وتمزق
وقد شهدت الفترة التي عاش فيها الإمام الرازي (543-606هـ/1148-1203م) تهاوي دولة السلاجقة في مركز الخلافة العباسية بالعراق والمناطق الواقعة شرقه، بدءا من ضعفها بوفاة السلطان مسعود (ت 547هـ/1152م)، وانتهاءً بانهيارها كلياً بهزيمة السلطان طغرل الثاني (ت 590هـ/1194م) على أيدي سلاطين الدولة الخوارزمية الصاعدة.
وكانت جغرافيا الأفكار في “بلاد العجم” (خراسان وآسيا الوسطى) تتنازعها الصراعات المذهبية الشديدة، فضلا عن مناكفات لفرق باطنية وأخرى كلامية، وبالتالي كانت بيئتها الفكرية تتسم برخاوة شديدة، ولعل هذا كان سببا في اتخاذ الرازي سبيل المناظرات الكلامية طريقا لإعادة التوازن إلى جبهة أهل السنة في تلك المنطقة؛ حسبما أوضحه الإمام في كتابه ‘اعتقادات فرق المسلمين‘. وبقدر ما كان عصر الرازي مضطربا فتجسَّدت فيه ملامح “القابلية للاستعمار”؛ فإنه أيضا تأجج فيه روحُ المقاومة له والانتصار عليه!
وتبدو لنا هنا ملاحظة مهمة؛ وهي أن الدولتين الخوارزمية والغزنوية لم تصمدا أمام الغزو التتري بسبب هشاشة الأساس الفكري والتفكك الداخلي، بينما نجحت الدولة الزنكية ووليدتها الأيوبية -اللتان مارستا إصلاحا عقائديا وسياسيا صارما- في صد التهديد الصليبي، ومنحتا ذلك النجاح لوريثتهما الدولة المملوكية التي أوقفت المدّ التتري في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م، ثم للدولة العثمانية التي مضت به إلى آفاق جغرافية وحضارية أرحب.
ولا يمكن فصل هذه النجاحات -في بُعديْها الأيوبي المتأخر والمملوكي- التي حسمت ضبط الجبهة الداخلية عن مشروع الرازي الكلامي، الذي كان روحه العام يعمل على الضبط الفكري للجبهات الداخلية الفكرية والسياسية، إضافة إلى أن ترنُّح الدول والحكومات عمل على تقوية المذهبيات باعتبارها حواضن اجتماعية للأصول والانتماء الفقهي والسلوكي. وهنا تكمن مفارقة أن هذا الفكر نجح إصلاحيا في الجناح الغربي من عالم الإسلام بينما أخفق في مسقط رأسه شرقيه!
فقد كان الرازي يمثل طبعة خاصة من مدرسة الأشعرية التي نجحت في التسرب إلى المذاهب الأربعة مع حضور طاغٍ في الشافعية والمالكية، بينما ظل المذهب العقَدي الماتريدي منحصرا في الغالب تحت عباءة المذهب الفقهي الحنفي باعتبارهما وجهيْن لآراء شخصية واحدة مؤسسة لكليهما هي الإمام أبي حنيفة نفسه، وليس للإمام أبي منصور الماتريدي (ت 332هـ/944م) إلا شرح تلك الآراء وتفصيلها؛ تماما كما ارتبط غالبا المذهبُ السلفي العقدي بالمذهب الفقهي الحنبلي وإن وُجدت له امتدادات واسعة في بقية المذاهب.
سلطة علمائية
حاولت الطليعة العلمائية -التي أشرنا لبروزها في العالم الإسلامي طوال القرن الخامس- أن تتمدد في الفراغ السلطوي السياسي لبسط سلطة العلماء الاجتماعية، وقد عمل هؤلاء العلماء على جبهات الإصلاح الفكري الاجتماعي من خلال محاربة البدع المذهبية والفرق الباطنية ونقد الأفكار المنحرفة، والربط بين التوحيد ووحدة الأمة وتعميق آلية الإجماع.
فنجد أن الإمام الجويني كان داعما بقوة لفكرة إجماع الأمة، وهو ينفي عنها إمكانية أن ترتد جماعيا حتى ولو غابت عنها الأصول، ولذلك قرر -في كتابه ‘الغياثي‘- أنها “لا تنسلخ عن الإيمان مُلابِسةً عماية الجهالة، فيكون مضمون هذه المقالة الإشعار بأمان الأمة عن المنقلَب إلى الكفر والردة، وإن تطاولت المدة”.
وهي نفسها فكرة عصمة الأمة التي تحدث عنها بعده تلميذه الغزالي -في مبحث الإجماع من كتابه ‘المستصفى‘- بقوله: “إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد، أما اجتهاد «الأمة المعصومة» فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله (ص) وقياسه، فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته، فكذا «عصمة الأمة» من غير فرق”.
ثم جاء بعدهما الرازي فتبنى الرأي نفسه مبرهنا عليه بالأدلة؛ ففي تفسيره لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، قال: “اعلم أن قوله: {وأولي الأمر منكم يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة منكم}، واستدل على ذلك استدلالا برهانيا فرأى “أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما”.
اعلان
ثم يقرر برهانيا أن “المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم -الذي هو المراد بقوله: {وأولي الأمر}- أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة”. وهذا تأسيس مهم لمبدأ أن مرجعية السيادة والمشروعية تعود إلى العلماء عبر مؤسسة أهل الحل والعقد.
ولا يكتفي الرازي بهذا التأسيس لمرجعية الأمة وسلطة الإجماع، بل إنه يفند الرأي الذي يرى أن الآية تعني الأمراء فقط؛ فقال: “وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف”.
علاقات واسعة
وبالنسبة لسلطة العلماء؛ فقد كان الجويني يقول إنه إذا “لم يكن في العصر نبي فالعلماء [هم] ورثة الشريعة، والقائمون في إنهائها مقام الأنبياء”، ولذلك “إذا كان سلطان الزمان لم يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون [هم] العلماء، والسلطان نجدتهم وشوكتهم وقوتهم”. وفي نفس الاتجاه يسير الرازي حين يرى أن “العلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية، والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمُكْنَة، إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك، لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما، ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء، وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة”!
وهذا الملمح -الذي يشير إلى تفسير {وأولي الأمر} باعتبارهم العلماء ويؤسس انطلاقا من ذلك لعصمة الأمة عبر مبدأ الإجماع؛ نجد أثره عند الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) وهو يتحدث عن ارتباط هذه المعاني بأولي الأمر، فيقول في ‘منهاج السنة‘: “لا نُسَلِّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، وذلك لأن عصمة الأمة مُغْنِيَةٌ عن عصمته..، وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة”.
وقراءة هذا المبحث في ‘التفسير الكبير‘ للرازي و‘منهاج السنة‘ لابن تيمية تكشف تقاربا وربما تأثيرا للأفكار التي كتبها الرازي في هذا الشأن، خصوصا أنه كان يرد على الأقوال الباطنية التي تتحدث عن عصمة الأئمة، وهو ما يؤكد أن ابن تيمية ورِث الدور الإصلاحي العلمائي نفسه خصوصا في المشروعات التي قدمها في عصر السلطان الناصر قلاوون المملوكي (ت 741هـ/1340م)، فقد كان يرى ضرورة إعادة ضبط الأفكار الاعتقادية وبناء الإصلاح الثقافي والمجتمعي انطلاقا منها.
وبالنسبة للمنظور العملي لتلك النظرية لدى الفخر الرازي؛ فقد اشتهر عنه أنه كان مقرَّبا لعدد من السلاطين والملوك، وقد أهدى إلى بعضهم مجموعة من كتبه، مثل كتاب ‘المسائل المشرقية‘ الذي أهداه إلى الوزير الخوارزمي أبي المعالي سهيل بن عبد العزيز المستوفي، وكذلك كتاب ‘أساس التقديس‘ الذي أشار إلى أنه ألَّفه للملك العادل الأيوبي (ت 615هـ/1218م).
أما علاقته السلطانية الأقوى والأبقى فقد كانت بالدولة الخوارزمية حيث عاش ونشط؛ وخاصة بسلطانها الكبير خوارزم شاه محمد بن تكش (ت 617هـ/1221م) الذي “حظِي عنده ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده”؛ وفقا لابن خلّكان (ت 681هـ/1280م) في ‘وفيات الأعيان‘. ولا يقاربه في ذلك إلا صلته بملوك الدولة الغزنوية التي يذكر الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الرازي “قصد [سلطانها] غياث الدين الغوري (ت 599هـ/1203م).. فالتقاه وبجله وأنزله، وبنى له مدرسة وقصده الفقهاء من النواحي”!
هيبة وتأثير
على أن تلك الصِّلات والعلاقات لم تكن مانعا للرازي من أن يؤسس للعلماء شرعية تفوق شرعية هؤلاء الأمراء باعتبار أن “العلماء -في الحقيقة- أمراءُ الأمراء”؛ حسبما يقرره في تفسيره ‘مفاتيح الغيب‘. كما لم تكن هداياهم إليهم وإجلالهم لمكانته حائلا دون وعظه لهم وإنكاره عليهم؛ فقد ذكر تاج الدين السبكي -في ‘الطبقات الكبرى‘- أن الرازي “وعظ يوما بحضرة السلطان شهاب الدين الغوري وحصلت له حالُ [وَجْدٍ]، فاستغاث: يا سلطانَ العالَم (= الغوري) لا سلطانُك يبقى ولا تلبيسُ الرازي يبقى {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ}”!!
بل إن علاقاته السلطوية تلك لم يسمح لها بأن تخرم هيبة العلم وقواعد طلبه المؤسِّسة لعلاقات التقدير البالغ لشيوخه من طلابه، حتى ولو كانوا من عظماء السلاطين؛ فقد “كان يتعاظم حتى على الملوك”!! طبقا لوصفه لدى ابن أبي أُصَيْبِعة (ت 668هـ/1270م) في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘، وقد ترجم فيه للرازي باعتباره طبيبا كبيرا.
ومن القصص الدالة هنا ما أورده الصفدي (ت 764هـ/1362م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- من أن “بعض الملوك.. سأله (= الرازي) أن يضع له شيئا في الأصول يقرؤه، فقال له: بشرط أنك تحضر إلى درسي وتقرؤه عليّ، فقال: نعم، وأزيدك على هذا! فوضع له [كتاب] ‘المحصل‘..، [فكان] السلطان.. يجيء ويقف ويأخذ.. مِداس (= الحذاء) الإمام ويحمله في كُمِّهِ، ويسمع الدرس في الكتاب”!!
مكّنت الرازيَّ علاقاتُه بالسلاطين من التحرك بحرية كاملة، ومنحته فرصة مثلى لإقامة دروسه ومناظراته، وأتاحت له بيئة آمنة مطمئنة أنضج فيها نظرياته وأحكم مؤلفاته؛ حتى إن ابن أبي أصيبعة يصف أبّهة مجلس درس له حضره اثنان من الملوك فجلسا كما يجلس بقية الحاضرين، فقال: “وكان لمجلسه جلالة عظيمة.. ويكون له يوم مشهود يراه فيه سائر الناس ويسمعون كلامه..، وعن جانبيْه -يَمْنةً ويَسْرةً- صفّان من مماليكه التُّرْكِ مُتَّكئين على السيوف”!!
وهذا النص خير معبر عن نظريته حول علوّ سلطة العلماء على الأمراء، ولعله يكشف طبيعة علاقته بالسلطة حيث كانت يوظفها لصالح نصرة مذهبه وأفكاره وليس العكس؛ لا سيما إذا استحضرنا ما كان عليه الرازي من أبهة سلطانية كبيرة، فقد كان من أصحاب التجارات ورؤوس الأموال والجاه العريض حتى “صار من رؤساء ذلك الزمان، يقوم على رأسه خمسون مملوكا بمناطق الذهب وحلل الوشي”!! طبقا لما أورده الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في ‘لسان الميزان‘. أما ابن العماد الحنبلي فقال -في ‘شذرات الذهب‘- إنه لما توفي “خلَّف تركة ضخمة منها ثمانون ألف دينار (= اليوم 13 مليون دولار تقريبا)”!!
ومن أبلغ الأدلة على مكانة الرازي الرفيعة عند السلاطين أن التتار -على ما عُرفوا به من وحشية واستباحة للدماء لم يسلم منها حتى كبار العلماء- بالغوا حين دخلوا مدينة هرات في احترام عائلته تقديرا لاسمه ومكانته؛ فقد جاء عند المؤرخ القاضي ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1349م) -في ‘مسالك الأبصار‘- أنه “عندما استولى التتر على بلاد العجم وخربوا قلاعها ومدنها وكانوا يقتلون في كل مدينة جميع من بها ولم يبقوا على أحد، تقدم [الوزير الخوارزمي] علاء الملك [العلوي] إلى جنكز خان (ت 624هـ/1227م) -وقد توجهت فرقة من عساكره إلى مدينة هرات ليخربوها ويقتلوا من بها- فسأله أن يعطيه أمانا لأولاد الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري وأن يجيئوا بهم مكرمين إليه؛ فوهب لهم ذلك وأعطاهم أمانا”!!
تمددٌ عابر
يقدم لنا أبو الفرَج ابن العبري (ت 685هـ/1286م) -في ‘تاريخ مختصر الدول‘- وصفا دقيقا لأثر تلامذة الرازي الفكرية في بلاد الأيوبيين؛ فيقول إنه “في هذا الزمان كان جماعة من تلامذة الإمام فخر الدين الرازي سادات فضلاء أصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة؛ كزين الدين الكشي (ت 661هـ/1262م) وقطب الدين المصري (ت 618هـ/1221م) بخراسان، وأفضل الدين الخونجي (ت 646هـ/1248م) بمصر، وشمس الدين الخسروشاهي (ت 652هـ/1254م) بدمشق، وأثير الدين الأبهري (ت 686هـ/1264م) بالروم (= تركيا اليوم)، وتاج الدين الأرموي (ت 655هـ/1257م)، وسراج الدين الأرموي (ت 682هـ/1283م) بقونية (= تركيا اليوم)”.
ثم يفيدنا بمدى حضور هذا التأثير الرازي في بلاط الأيوبيين تحديدا؛ فيقول: “حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود (ت 656هـ/1258م).. صاحب الكرك أنه كان يتردد الى شمس الدين الخسروشاهي يقرأ عليه كتاب ‘عيون الحكمة‘ للشيخ أبي علي بن سينا (ت 428هـ/1038م)، وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى مَن معه مِن الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم، ويترجّل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفا بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه، فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم، ولم يمكِّن الشيخ من القيام له”!!
وقد انتقلت مدرسة الانضباط والإصلاح الرازية تلك إلى الدولة العثمانية حين تأسست بعد قرن من وفاة الإمام؛ فَسَرَى روحها في جنبات مدارس الأناضول التي ذهب إليها العديد من طلاب الرازي يتقدمهم تلميذه الكبير سراج الدين الأرموي، وكانت شروحات وتعليقات الرازي من المراجع المهمة في الدرس العلمي العثماني، إضافة إلى أئمة اقتفوا المنهجية الرازية مثل السعد التفتازاني (ت 792هـ/1390م) والشريف الجرجاني (ت 816هـ/1413م).
والحقيقة أن هذه الصفوة من العلماء عملت على جعل العثمانيين امتدادا إصلاحيا للسلاجقة في تبنيهم للفكر السني والمذاهب الفقهية، ولولا جهود هؤلاء لسقطت تلك الدولة القوية في وهاد المدارس الكلامية المخالفة لأهل السنة -بالمفهوم الجامع للمدارس العَقَدية المتبناة من فقهاء المذاهب السُّنية- على غرار البويهيين والفاطميين.
وفي هذا الصدد؛ تتفق الدراسات التركية المعنية بتاريخ الحياة العلمية والفكرية في الدولة العثمانية على وجود تأثير كبير للطبعة الرازية من المدرسة الأشعرية في المقررات الدراسية العقدية العثمانية، لكنها تختلف في تقدير حجم هذا الأثر ومدى ترسخه، رغم تواطئها على أنه ظهر هناك بشكل واضح بدءا من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.
ويقول الباحث التركي البروفيسور أحمد يشار أوجاق -في دراسة له عن “الحياة الفكرية” في الدولة العثمانية منشورة ضمن كتاب جماعي صدر بعنوان ‘الدولة العثمانية.. تاريخ وحضارة‘- إننا “نشهد دخول هذه المدرسة إلى الحياة الفكرية الدينية عند العثمانيين -وبشكل واضح- مع العالم الشهير شمس الدين محمد المعروف بالمنلا فناري (ت 834هـ/1431م)، واستمرت تلك المدرسة -عن طريق التسلسل بين الأستاذ والتلميذ- حتى ظهر منها أقوى الرواد في القرنين الخامس عشر (التاسع الهجري) والسادس عشر (العاشر الهجري)، من أمثال المنلا يكان (ت 840هـ/1437م)..، والعالم الشهير المنلا لطفي (ت 900هـ/1495م) وفي النهاية ابن كمال باشا (ت 940هـ/1534م) وأبي السعود أفندي (ت 982ه/1574م)”.
روافد متعددة
ويُرجع أوجاق سبب سيطرة المدرسة الرازية -دون المدارس الأخرى- لدى العثمانيين إلى كونها امتلكت “سمة الدفاع بالمناهج الفلسفية عن معتقدات أهل السنة في الفكر الديني العثماني، وإقرار مشروعية السلطة السياسية داخل هذا الإطار”. ثم يضيف أن “النقطة الجديرة بالنظر هي أن رواد مدرسة الفخر الرازي [المذكورين] تولوا بالفعل أعلى المناصب في المدارس والوظائف الدينية في مركز الحكومة العثمانية، ومن ثم أصبحوا منظِّرين للتطبيق الرسمي”.
هذا إضافة إلى أن الرازي كان على المستوى الشخصي “أكبرَ العلماء والمفكرين بعد الغزالي.. في المرحلة التي عاشها..، [وقد] ترك أثرا كبيرا على العلماء الذين جاؤوا بعده..، ومن هنا نلاحظ أن العثمانيين الذين توجهوا إلى مناطق خوارزم وما وراء النهر لتحصيل العلم” تأثروا بآراء الرازي ثم عادوا بها إلى بلادهم.
وكما تسربت مدرسة الرازي إلى الحياة العلمية العثمانية عبر العلماء الأتراك الذين دخلوا معقله الفكري في آسيا الوسطى؛ فقد تسللت تأثيراته عبر رافدين مهمين آخرين: أولهما سابق لوجود الدولة العثمانية لكنه أثَّر فيها لاحقا، وهو تلامذة للرازي هاجروا من آسيا الوسطى إثر الاجتياح المغولي فأحدثوا تأثيرات لمدرسته في الجوار الجغرافي للعثمانيين بمنطقة الشام قبل التمدد العثماني إليها لاحقا، حيث ساد انتشار الدرس الرازي بامتياز في هذه المنطقة منذ العصر الأيوبي؛ كما رأينا في الخريطة الفكرية التي رسمها لتأثير الرازي نصُّ ابن العبري السابق.
أما الرافد الثاني فهو امتدادات عائلية للرازي مثَّلها أحفاد له علماء استوطنوا الأراضي العثمانية في الأناضول، حيث تولوا التدريس في مدارسها الكبيرة؛ فقد ذكر طاشْكُبْري زَادَهْ (ت 968هـ/1561م) -في ‘الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية‘- أن حفيدا للرازي يُسمَّى جمال الدين محمد الآقسرائي/الأقصرائي (ت 797هـ/1395م) كان “مدرسا في بلاد قَرَمان (= منطقة بالأناضول) بمدرسة مشهورة بـ‘مدرسة السلسلة‘..، وكان طلبته ثلاث طبقات: الأدنى منهم مَن يستفيدون منه في ركابه عند ذهابه إلى الدرس وسماهم بـ‘المشائية‘، والأوسطين منهم مَن يسكنون في رواق المدرسة وسماهم ‘الرواقيين‘ على عادة الحكماء (= الفلاسفة) الأقدمين؛ والأعلى منهم مَن يسكنون في داخل المدرسة. وكان يدرس أولا للمشائين في ركابه، ثم ينزل عن فرسه ويدرس للساكنين في الرواق، ثم يدخل المدرسة ويدرس للساكنين في داخلها”.
بل إن أحد حفدة الرازي تولى منصب “شيخ الإسلام” ذي المكانة المركزية في الدولة العثمانية على المستوييْن الديني والحكومي؛ ونعني بذلك حفيده علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه ‘زنبيللي علي أفندي‘ (ت 932هـ/1503م)، فقد نسبه العلامة محمد زاهد الكوثري (ت 1371هـ/1952م) -في رسالة ‘الغرة المنيفة‘- إلى الفخر الرازي ضمن علماء من “ذريته.. تحنّفوا (= انتسبوا للمذهب الحنفي)، ونبغ فيهم أفاضل في الدولتين السلجوقية والعثمانية”.
ولعل مما ساهم في تغلغل المدرسة الرازية في أروقة الدرس العثماني هو أنها ضيّقت كثيرا الفجوة الكلامية بين الأشاعرة والماتريدية، التي نشأ في ظلالها العثمانيون باعتبارها امتدادا عقديا لمذهبهم الفقهي الحنفي. وهذا التضييق هو الذي سمح بعد الرازي بنشوء طبقة من الحنفية صارت تنسب نفسها إلى الأشعرية، بدءا بالإمام سعد الدين التفتازاني الأشعري الذي احتار المؤرخون في تصنيفه شافعيا أم حنفيا، ومرورا بالشريف الجرجاني “الأشعري الحنفي”، وليس انتهاء بالشاه ولي الله الدهلوي “الحنفي الأشعري” (ت 1176هـ/1763م).
تأهيل منهجي
بالمطالعة المتأنية لتفسير الرازي ندرك أنه أوتي قدرة كبيرة في تحليل الآيات تحليلا يمزج البرهان والاستدلال بالشفافية الصوفية، مما يجعل كتاباته منعطفا تاريخيا فاصلا في تاريخ مناهج علم الكلام؛ ومن ألمعية ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) أنه انتبه لذلك في كتابه ‘المقدمة‘، فنراه يؤرخ بدقة لجهود الرازي الحاسمة ضمن ما يسميها ابن خلدون “طريقة المتأخرين” التي أدخلت فن المنطق ضمن مباحث علم الكلام، ثم دخل الاثنان معا في مسائل وأبواب علم أصول الفقه حتى صارا مكونيْن “طبيعييْن” في نسيج الدراسات الشرعية، وأصبحت “مدرسة المتكلمين” من أهم مدارس “أصول الفقه” بعد أن صارت كذلك في “أصول الدين”.
يقول ابن خلدون عن المستوى الأول -في هذا “التطبيع الكلامي”- المتعلق بتأهيل فن المنطق شرعيا ودور الرازي في ذلك حتى إنه يقدمه حينا على الغزالي: “اعلم أن هذا الفن (= المنطق) قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين..، وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون -من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب (= الرازي)- فسامحوا في ذلك بعض الشيء، وأكبَّ الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا..، والمتأخرون.. لمّا.. صح عندهم رأي أهل المنطق.. قضوْا بأن المنطق غير منافٍ للعقائد الإيمانية وإن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي..؛ وهذا رأي الإمام (= الرازي) والغزالي وتابعهما لهذا العهد”!!
ويمضي ابن خلدون في بيان الإصلاحات التي قادها المتأخرون -بزعامة الرازي- على فن المنطق حتى تمت لهم “أسلمته”؛ فيقول: “ثم جاء المتأخرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنظر في الكليات..، وحذفوا كتاب المقولات..، وحدّقوا النظر فيه بحسب المادة..، ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مُستبْحِرا، ونظروا فيه من حيث إنه فنّ برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم، فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب..، وهُجِرتْ كتبُ المتقدمين وطُرُقهم كأن لم تكن”!
ولم يتأت لهؤلاء الصفوة نجاح مسعاهم المعرفي الإصلاحي حتى “فرَّقوا بينه (= المنطق) وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط..، ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيرا منها مُقتبَسٌ من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..، فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى ‘طريقة المتأخرين‘، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية..، وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي..، وتبعه الإمام ابن الخطيب [الرازي]”.
وهذا يعني أن هذا التيار لم يستسلم للتغريب الوافد مع ترجمات الكتب اليونانية بل نقدوا الفلسفة بالبراهين، لكن يبدو أن من جاء بعدهم بالغ في استخدام المناهج الفلسفية حتى أغرقوا علم الكلام بها فحرفه ذلك عن مقصده الأصلي: “ثم توغَّل المتأخرون من بعدهم (= الغزالي والرازي) في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلمين فحسبوه فيهما واحدا..، ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر..، كما فعله [ناصر الدين] البيضاوي (ت 685هـ/1286م) في ‘الطوالع‘ (= كتابه ‘طوالع الأنوار‘) ومَن جاء بعده”.
منظور مختلف
وهنا نجد ابن خلدون -على عكس كثير من الأقدمين والمعاصرين- يبرِّئ ضمنا الرازي من المسؤولية عن ذلك الإغراق لكونه حصل من جيل لاحق عليه؛ لكنه لا يكتفي بذلك حتى يصرح به حاثًّا الدارسين على اعتماد كتب الرازي الكلامية في محاججاتهم العقدية، فقال إن “من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب”! وبذلك يؤسس ابن خلدون لضرورة التفرقة بين مقاصد المتكلمين -من أمثال الرازي- ومقاصد الفلاسفة، وهو الأمر الذي لم يتحرّه كثيرون في مآخذهم على الرازي وتراثه الكلامي الذي تجاوز وحدَه ستين كتابا ورسالة!
وفي حديثه عن تاريخ الكتابات في مناهج أصول الفقه؛ يحدثنا ابن خلدون عن جهود الرازي الحاسمة في ترسيخ المستوى الثاني من “تطبيع” المباحث المنطقية والكلامية معاً في مناهج الاستنباط الشرعية ممثلة في أصول الفقه، فيقول إنه “كان من أحسن ما كَتَبَ فيه (= علم الأصول) المتكلمون: كتاب ‘البرهان‘ لإمام الحرمين [الجويني]، و‘المستصفى‘ للغزالي، وهما من الأشعرية؛ وكتاب ‘العهد‘ لعبد الجبار (ت 415هـ/1025م)، وشرحه ‘المُعتمَد‘ لأبي الحسين البصري (ت 436هـ/1044م)، وهما من المعتزلة”.
ثم يضيف ابن خلدون أنه “كانت [هذه الكتبُ] الأربعةُ قواعدَ هذا الفن وأركانه؛ ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب ‘المحصول‘، وسيف الدين الآمدي (ت 631هـ/1233م) في كتاب ‘الإحكام‘. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج؛ فابن الخطيب أمْيَلُ إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل”!!
ويبدو أن الرازي كان واعيا بإسهامه المفصلي في “إعادة تأهيل” مباحث المنطق والفلسفة وتشذيب علم الكلام من شوائبهما الخاطئة، ثم إعادة استخدام الجميع في الدفاع عن عقائد الإسلام، بل وتوظيف الصالح منه في مناهج أصول الفقه للتعامل الاستنباطي مع النصوص؛ كما رأينا في كلام ابن خلدون. فها هو الرازي يخبرنا -في رسالته ‘اعتقادات فرق المسلمين‘- عن مشروع مواجهته لتراث الفلاسفة اليونانيين، فيقول:
“كان أعظمهم (= الفلاسفة) قدْرًا أرستطاليس (ت 322ق.م) وله كتب كثيرة، ولم ينقل (= يترجم) تلك الكتب أحد أحسن مما نقله الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا..، وجميع الفلاسفة يعتقدون في تلك الكتب اعتقادات عظيمة، وكنا نحن في ابتداء اشتغالنا بتحصيل علم الكلام تشوقنا إلى معرفة كتبهم لنرد عليهم، فصرفنا شطرا صالحا من العمر في ذلك حتى وفقنا الله تعالى في تصنيف كتب تتضمن الرد عليهم..، وهذه الكتب بأسرها تتضمن شرح أصول الدين وإبطال شبهات الفلاسفة وسائر المخالفين، وقد اعترف الموافقون والمخالفون أنه لم يصنِّف أحد من المتقدمين والمتأخرين مثل هذه المصنفات “!!
“مفاتيح” موسوعية
كان تفسير ‘مفاتيح الغيب‘ مشروعَ عُمْرٍ للفخر الرازي فجاء الكتابَ الأجلَّ بين كتبه؛ فقد دوَّن فيه ولخّص معظم وأهم ثمرات عقله المعرفية، ولذلك اتهمه بعضهم -كما في تفسير ‘البحر المحيط‘ لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ/1344م)- بأنه “فيه كل شيء إلا التفسير”! والواقع أن الكتاب أشبه بموسوعة علمية كبرى يمكن أن تحاكم إليها كافة الإشكالات أو الشبهات التي أثيرت حول مؤلفاته الأخرى، وهو نفسه قال -في وصيته التي ختم بها حياته تائبا منيباً- مخاطبا الجميع: “فاعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم فكنتُ أكتب في كل شيء شيئا، لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقا أو باطلا، أو غَثًّا أو سمينا”!!
ومما نستخلصه من مطالعة هذا التفسير أن الرازي كان يؤسس استدلالاته الكلامية العقدية على أن “النظر والفكر في الدلائل مأمور به” شرعا، لأن التقليد -لا سيما في الاعتقاد- من الطرائق القديمة التي ذمها القرآن؛ فنقرأ له -في تفسير آية {إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أمَّةٍ وإنّا على آثرِهم مُقْتدون}- قوله إنه “لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد”!
وهو يستنبط من منهج الحجاج العقدي عند إبراهيم وموسى عليهما السلام الكثير من أساليب الاستدلال البرهاني؛ فيرى أن هذا المنهج تدرج عند النبي إبراهيم من محاجّته لنفسه حين قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِين}، إلى الحِجاج مع قومه: {ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون}؟!، ثم مناظرته “مع ملك زمانه” في قوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيي ويُميت}. ثم يصل في النهاية إلى خلاصة يؤكد بها أن “كل من سلمت فِطْرتُه علم أن علم الكلام ليس إلا تقريرَ هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام”!
وفي تفسير ‘مفاتيح الغيب‘ أيضا؛ نلاقي بوفرة ما استقر عليه الفخر الرازي بشأن التصوف ورؤيته لمبناه وقضاياه، ومن ذلك قوله في التأسيس لشرعية التصوف: “إن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة: إما الثناء على الله باللسان، وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة [له]، وإما طلب المكاشفات والمشاهدات [منه]”. والظاهر أن الفخر هنا يبني على المصالحة التي عقدها الغزالي -في ‘إحياء علوم الدين‘- بين التصوف وعلوم الشريعة، ولعل ما يميزه عن الغزالي هو أنه قدم التصوف سبيلا معرفيا متمما لطريق الاستدلال وليس مغايرا له.
ولذلك يقول الرازي -ضمن تفسيره لقصة نبي الله موسى و”العبد الصالح” العالِم الواردة في سورة الكهف- إن “العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة، وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالِم: {وعلّمناه من لَدُنّا علماً}! ثم إن موسى -عليه السلام- لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالِم، [وذلك] ليَعْلَمَ موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور”.
وقد قدَّم الرازي منظورا مختلفا للصوفية حينما كتب عنهم ضمن فِرَق المسلمين، وهو تصنيف غير مسبوق بحسب ما يقول هو نفسه في رسالته ‘اعتقادات فرق المسلمين‘: “اعلم أن أكثر من قَصَّ فِرَقَ الأمة لم يذكر الصوفية، وذلك خطأ لأن حاصل قول الصوفية [هو] أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن”. وهو هنا يُشَرْعِنُ طريقتهم فيما سماه “التطلع على حقائق الأمور” التي تقوم على التصفية والتجرد، ليمكن بذلك إضافتهم إلى الفرق الأخرى التي اعتاد إيرادَها مؤلفو كتب الفِرَق والمِلَلِ والنِّحَل.
ثم إنه جعل الصوفية ست فِرَق وصوّب منها نهج الثالثة باعتبارهم “أصحاب الحقيقة، وهم قوم إذا فرغوا من أداء الفرائض لم يشتغلوا بنوافل العبادات، بل بالفكر وتجريد النفس عن العلائق الجسمانية، وهم يجتهدون ألا يُخْلوا سِرَّهم وبالَهم عن ذكر الله تعالى، وهؤلاء خير فرق الآدميين”! ونلحظ هنا أن إدماج الفكر مع الذكر والعقل مع النقل والتزكية هو أرض التصوف السواء التي ينحاز إليها الرازي ويدعمها.
مناظرات شاملة
دخل الرازي حلبات المناظرات الكلامية بوصفها أحد مقاصد العلم ووظائف العلماء، وأصّل لها بالقصص القرآني الذي جعلها من مسالك الأنبياء والرسل في تبليغ الرسالات وإقامة الحجة على الجاحدين لها، وضرب أمثلة واسعة من مناظرات إبراهيم وموسى عليهما السلام، مازجا ذلك بما لديه من تحليل عقلي كبير وزاد علمي وفير ونقد ظاهر باهر، وتلك عُدّةٌ منهجية أكسبه إياها تنوعُ تحصيله المعرفي، وتعدد رحلاته في الشرق الأقصى الإسلامي، واتساع احتكاكه بالثقافات والفلسفات.
وحسب كتاب ‘مناظرات الرازي‘؛ فإن دائرة ردوده ومجادلاته ظلت تتوسع مستوعبة ما تزخر به منطقة آسيا الوسطى وخراسان من فرق وطوائف، فقد رد على الفلاسفة والمجوس والزنادقة والبراهمة وأهل الكتاب والكرامية والمعتزلة والشيعة، وجرت مناظرات بينه وبين طائفة من أعلام عصره يتقدمهم نور الدين الصابوني البخاري (ت 580هـ/1184م) والرضا النيسابوري (ت بعد 582هـ/1186م) والشرف المسعودي (ت بعد 582هـ/1186م).
وعن تلك المناظرات يقول الفخر: “لما دخلت بلاد ما وراء النهر وصلت أولا إلى بلدة بخارى ثم إلى سمرقند، ثم انتقلت منها إلى خُجُنْد ثم انتقلت منها إلى البلدة المسماة بناكت، واتفقت لي في كل واحدة من هذه البلاد مناظرات ومجادلات مع من كان فيها من الأفاضل والأعيان”. ويبدو أن الرازي -على حدَّته التي يعترف بها- كان يتسم بإنصاف لخصومه وموضوعية في إبراز نقاط ضعفهم وقوتهم؛ إذ يقول عن أحد خصومه في المناظرة: “فالمرة الأولى تكلمتُ مع الرضا النيسابوري وكان رجلا مستقيم الخاطر بعيدا عن الاعوجاج، إلا أنه كان ثقيل الفهم كليل الخاطر محتاجا إلى الفكر الكثير في تحصيل الكلام”.
ومن إنصاف الرازي أنه عُرف بأنه يورد حجج خصومه -في مناظراته ومؤلفاته- على أكمل وأقوى ما يكون من النصاعة والبرهنة، وقد أقر هو بنفسه -في كتاب ‘نهاية العقول في دراية الأصول‘- هذه الطريقة، وهي المنهجية التي انتُقد بسببها فقال بعض خصومه -حسبما يحكيه عنهم ابن حجر في ‘لسان الميزان‘- إنه “يورد شُبَهَ المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غايةٍ من الوَهاء (= الضعف)”!
لكن ابن حجر ينقل عن نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت 716هـ/1316م) تعليلا نفسيا طريفا لما يُتَّهم به الرازي؛ فيقول إنه “اتهمه بعض الناس ولكنه (= الاتهام) خلاف ظاهر حاله (= الرازي)..، ولعل سببه [إن صحّ هو] أنه كان يستفرغ قواه في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شيء من القوى، ولا شك أن القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية”! وهذا معناه أن الرازي كان يبذل الوسع والطاقة في بناء حُجَج الخصم حتى إن هدمها يُصبح متعذّرا، أو يكون هو نفسه استنفد طاقته في تعميقها فيشق عليه نفسيا وذهنيا أن ينقضها بنفس الكفاءة!!
انتقاد وإنصاف
رغم ما أشرنا إليه سابقا من تقارب بين ابن تيمية والرازي في أفكار وتطابق في أدوار؛ فإنه لا يمكن إنكار نقد الإمام ابن تيمية القوي لمدرسة الرازي والسجالات الشديدة التي دارت بين المدرستين طوال القرون الماضية، ولا تزال محتدمة حتى لحظة قراءة هذا المقال! فابن تيمية -الذي أحسَّ بخطر غزو تلامذة الرازي المحمّلين بأفكاره للشام قُـبيل زمانه وفي أثنائه- كان شديد النقد للرازي بل ويصفه كثيرا بالتناقض.
فابن تيمية قول مثلا عن الرازي في ‘مجموع الفتاوى‘: “وأما ابن الخطيب (= الرازي) فكثير الاضطراب جدا لا يستقر على حال، وإنما هو بحثٌ وجدلٌ بمنزلة الذي يطلب ولم يَهْتدِ إلى مطلوبه؛ بخلاف أبي حامد [الغزالي] فإنه كثيرا ما يستقر”. ويتهمه بأنه “هو من أفسد الحجج”. ومع ذلك؛ لا تخلو نقاشاته للرازي من الإنصاف خصوصا أن ابن تيمية لم يفته مقصد الرازي النبيل في الدفاع عن عقيدة الإسلام.
وهكذا نجده يلتمس له المعاذير كما في قوله: “وليس هذا تعمدا منه لنصر الباطل، بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه. فإذا وجد في المعقول -بحسب نظره- ما يقدح به في كلام الفلاسفة قَدَح به، فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له، فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين. ومن الناس من يسيء به الظن وهو أنه يتعمد الكلام الباطل؛ وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له”!!
ولعل هذا الموقف المنصف هو ما لخصه الحافظ ابن حجر حين قال -في لسان الميزان‘- إن “الفخر [الرازي] كان من أئمة الأصول، وكتبه في الأصلين (= أصول الدين وأصول الفقه) شهيرة سائرة، وله ما يُقْبَل وما يرد”.
ومن الطريف أنه كما وجدت مدرسة الرازي طريقها إلى بلاد العثمانيين؛ نالت كذلك مدرسة ابن تيمية الناقدة لها حضورا مبكرا هناك، فنشطت -بقيادة محمد أفندي البركوي (ت 981هـ/1573م)- في مواجهة غريمتها الرازية، كما واجهها من قبل ابن تيمية نفسه حين أحس بتأثيرها الكبير في معظم الساحة العلمية الإسلامية آنذاك (في الشام ومصر والعراق وما وراءها شرقا). فجاء ظهور هذه المدرسة التيمية العثمانية “ردا على مدرسة الفخر الرازي التي كانت تمثل الإسلام الرسمي عند العثمانيين”؛ حسب ما يقول الباحث التركي أوجاق.
اتهام منتحَل
استنتج الباحث جورج مقدسي (ت 1422هـ/2002م) -في دراسته ‘الشافعي وأصول المتكلمين‘- أن الإمام الشافعي (ت 204هـ/820م) وضع كتابه ‘الرسالة‘ في أصول الفقه من أجل التأسيس لتيار الظاهرية بين أهل الحديث، وذلك لقطع الطريق على أصحاب الكلام ممثلين في المعتزلة؛ حيث يقول الباحث إن الشافعي “يظهر -من وَضْعِه السُّنّةَ في منزلة القرآن وتقييدِه إعمالَ القياس بضوابط مُحْكَمة- أن باعثه الأصيل [لكتابة ‘الرسالة‘] قد تمثل في أن يضع علما جديدا لأهل الحديث يكون مقابلا لعلم الكلام الذي ارتبط بالمعتزلة، الذين وصفهم الشافعي بأنهم: ‘خصومه من أهل الكلام؛ أنصار الحكمة والفلسفة‘”.
ثم تساءل مقدسي: “لمَ وقع هذا التغيير في طبيعة علم أصول الفقه الذي وضعه الشافعي؟ هذا العلم الذي كان في بدايته علما نقليا محضا، بعيدا كل البعد عن الكلام والفلسفة، بل عن كل مسائل فلسفة التشريع؛ ثم اختلطت مسائله -في مستهل القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي- بمسائل كلامية أدخلها المتكلمون الذين أظهر الشافعي مَقْتَه لهم”!
ونحن نرى أن مقدسي لم يكن مصيبا فيما ذهب إليه مقتديا -باعترافه هو- بآراء المستشرقيْن إغناز غولدتسيهر (ت 1340هـ/1921م) ويوسف شاخت (ت 1389هـ/1969م). ومن يطالع كتاب ‘مناقب الشافعي‘ للفخر الرازي يعرف أن ما قدمه هؤلاء الثلاثة ليس مطعنا جديدا بحسب ما يُصوِّره مقدسي، الذي إما أنه اطّلع على كتاب الرازي هذا فلا وجه لاعتباره أطروحته أمرا جديدا، بل كان عليه إسنادها إلى قائليها قبل قرون وليس إلى نفسه أو إلى باحثين معاصرين؛ أو أنه لم يطّلع عليه فذلك قد يعني تقصيرا منه في البحث لكون الكتاب طُبع قبل نشر دراسته بقرن كامل!! ولو طالعه لعلم أن ما طرحه كان متداولا قبل الرازي بقرون مما دفعه للرد عليه!
فقد نقل الرازي ادّعاءات لأتباع بعض الفرق “زعموا أنه (= الشافعي) كان منهم”، ومن هؤلاء فرقة سماها “المشبِّهة” ادَّعت انتساب الشافعي إليها لأنه “كان في غاية البغض لعلم الكلام، وفي غاية المحبة لظواهر الكتاب والسنة”، ثم أضاف: “وأما المعتزلة فزعموا أنه كان منهم” أيضا!!
ورأى الرازي أن حقيقة التضاد القائم بين الاتجاهين المذكوريْن تُسقط أي انتماء من الشافعي لإحداهما، ثم إن “الصداقة التي كانت حاصلة بينه وبين أهل الظاهر لا توجب كونه على مذهبهم، فإنه لا يبعد أن يقال إنه ما خاض معهم في علم الأصول (= ناظرهم عقَديًّا)، فلهذا السبب حصلت تلك الصداقة”.