ابو العلاء المعري من منظور المفكر العربي هادي العلوي ! (*)
د. رضا العطار
احمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي من اسرة فقهاء، عُمي في الرابعة، واظهر ميلا مبكرا الى الدراسة، فاخذ يتردد على المكتبات ونظم الشعر في الحادية عشرة، ثم تعمق في اللغة والفقه والادب والتاريخ والفلسفة. وتمكن من الشعر فضارع فحول الشعراء، واحتفظ بصفة الشاعر الكبير حتى وافى الاربعين حيث اخذ في التفلسف، الا انه لم يترك الشعر بل وظفه لفلسفته واختار اللزوميات للتعبير عن آرائه. ولم يلتزم بمنهج فلسفي صارم، كان فيه الكثير من التباين الناتج عن تقلبات المزاج الشعري او عن التقنية والمسايرة – – وقد استخلصت من اللزوميات قرابة الالف بيت تعبر عن مذهبه الفلسفي وزندقته المنكرة للنبوات والناقدة لنظام الطبيعة والمجتمع.
افترض ان هذه الجملة من اللزوميات هي المعبر الاصدق عن آراءه وما عداها كان للمداراة – وقد اظهر ضعفا شخصيا في مواجهة ناقديه فكان يداريهم اذا تكلموا معه وجها لوجه. فإذا انفرد بنفسه ساح فكره وسال، فلم يقيده اعتبار. ويصعب القول ان المعري كان مؤمنا لان تعمقه في الفلسفة اظهر له سذاجة الوعي الديني ولا منطقيته. لكنه ذلك لم يجعله ماديا صرفا – بل كان يجري على نهر مورود من الروحانية الشرقية اللادينية التي تبدأ من الكونفوشية. والصينيون لا يعرفون الدين – وتنتهي في اقطاب التصوف الاجتماعي الاسلامي.
والتجارب تثبت ان المادية الصرفة لازمة للعلوم البحتة لكنها غير لازمة لعلوم المجتمع بل هي ضارة على المدى البعيد – – ويظهر الفرق هنا في مادية ستالين الصرفة، فكانت الشيوعية السوفيتية سياسة دولتية جاسية غليظة. بينما الشيوعية الصينية قبل الثورة الثقافية، كانت سياسة اجتماعية تتماهى مع روح الشعب – – وتمتلئ الشيوعية الصينية قبل الثورة الثقافية بالقلبية الانسانية – – – والروحانية كما اختارها ابو العلاء والمتصوفة. فهي ليست من الدين.
ويكشف ابو العلاء عن حقيقة مكشوفة، هي ان الدين لا علاقة له بالروح، بل هو منحنى حسي لذائذي تسلطي. والروحانية تجريد لا ديني ينغمس فيه الملحد، فيتعالى على الصغائر ويرفع من شأن الروح على حساب النزعات الجسدية المفرطة.
وفي حين يقل الزهاد بين رجال الدين، فإن الزهد هو جوهر المتصوف الملحد.
فلم تنجح الدعوة الى الزهد، عمليا، في التعاليم الدينية. اذ لم يلزم بها رجال الدين،
اما عامة الناس فهم زهاد بحكم الواقع لانهم في العادة فقراء ومحرومون وليس لديهم ما يزهدون فيه. وانما صار الزهد مسلكا عاما للحكماء وقادة الثورات الاجتماعية كالمسيح والقرمطي وابوذر الغفاري.
والمعري متصوف في المسلك لا في المذهب. ولغته بعيدة عن لغة المتصوفة – وقد شملهم نقده، ولم يكن منصفا في نقدهم. لانه عمم ولم يخصص. كما لم يميز بين الاقطاب وعامة المتصوفة. فلم اجده يذكر الحلاج. اما في السلوك فكان مثلهم.
متقلل في الزهد، مقاطع للدولة، معاد للدين ورجاله، محاربا ذوي المال، قريب من الناس، يدافع عن حقوقهم ويدعو الى تسبيل الثروة. ولم يتزوج. ومال الى العزلة والتأمل وكان يبكي في خلواته. ويصلي للاتصال بالمطلق، لا لأداء الفرض، ولذلك لا يصلي الجمعة، وخالفهم في عدم الحج، ووافقهم في الصوم، لانه رياضته الروحية – وكان له مشروع لاقامة دولة مشاعية ولم تواتيه الشجاعة للمضي فيه كما مضى الحلاج.
المعري أمة وحده، وتكراره متعذر، لكن المعروية يمكن ان تتمظهر جزئيا في افذاذ الحكماء والمثقفين الكونيين، لانها غرار تتوجه اليه النفس المثقفة بالاقتداء- وتبلغ سلطة المثقف الكوني عند المعري اقصى غايتها التي تقترن عند المتصوفة بالفناء. وفناء المعري عن نفسه جعله مرهوب الجانب عند الحكام – – وبهذه السلطة، انقذ بلدته من اجتياح عسكري لم يكن الشاعر او الفقيه قادرا على ايقافه.
* مقتبس من كتاب مدارات صوفية لهادي العلوي