د. نضير الخزرجي
ما يميز الثابت عن المتحرك، أن الأول كنقطة مركز الدائرة متساوية القطر، ومن أي جهة نظرنا إليها فهي واحدة لأن الثابت يبقى ثابتا ما لم يتحرك، وأما المتحرك داخل الدائرة، فإن مستوى النظر إليه حينئذ يختلف لاختلاف القطر، وهكذا الأمر بين المرء العامل والآخر القاعد حليس الدار أو مجلسه، فلا يمكن للمرء ان يدرك ما يصدر عن الجالس ولكنه بالتأكيد يلمس حركات العامل، ومن هنا جاء تفضيل العامل على الخامل، وتفضيل المجاهد على القاعد، وتفضيل الباسط يديه بالبذل والإنفاق على القابض عليها بالحبس والإقتار.
ولما كان الإنسان غير معصوم، فإن الخطأ قابل للوقوع لا محال، والنسبة تختلف من شخص لآخر حسب نوع العمل وجنس العامل وحكمته وحنكته، وكلما كثر عمل العامل كثر الخطأ عن إرادة أو غير إرادة، ولكن الكثرة تكسبه الخبرة التي تحد من حجم الخطأ إن أعمل عقله واستجاب لفطرته السليمة وصهر تراكم الأعمال في بوتقة التجربة الفاعلة التي تجعله كثير الخدمة قليل الخطأ، والعاقل من أكسبه الخطأ عبرة وخبرة جديدة، مع يقينه أنَّ الوقوع في الخطأ أمر لا مناص منه وإن رغب تجنبه وتفاديه، فالمرء لا يعيش بمفرده، وكما في الحركة البركة، فيها الزلّة.
وبإزاء الخطأ العفوي يبرز الخطأ المقصود، وكلاهما خروج عن جادة الصواب، لكن الأول لم يرده صاحبه وربما لم يقف عليه حتى يتبين خطؤه فيصححه، أو رآه عن طيب سريرة صحيحا فمضى فيه ولم يجد من يرشده إلى خطئه وإذا بان له الخطأ عاد إلى جادة الصواب، في حين أن الثاني أراده صاحبه عن عمد أو غرض في نفسه وهو يعلم أنه يجانب الحق والحقيقة وخرج عن مركز الصواب ووقع في دائرة الفساد وإذا تمادى في غيه وأشاع وقع في دائرة الإفساد.
وإذا أمكن تقديم العذر للمخطئ بعفوية حيث لم يقصد الضرر، فلا يمكن ذلك مع الخطأ العمدي، وتضيق الحلقة وتشتد على الذي يسعى في الأرض فسادا، وإذا كان النوع الأول من الفساد القابل للتصحيح والثاني من الفساد الذي يقوِّمه ميزان العدل والقانون، فإن هناك فساداً هو من باب الجهل المركب حيث يرى صاحبه أنه يقف في دائرة الصواب المطلق ولكنه يفسد من حيث يصلح، وهو من الطبقة الذين قال فيهم القرآن الكريم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) سورة البقرة: 11- 12، وهؤلاء من الذين وصفهم القرآن الكريم: (قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) سورة الكهف: 113- 115.
كلنا يخطأ، ومن لا يعمل لا يخطأ، وميت الأحياء الذي لا يعمل، ولكن خير الشعار المرتجى هو ما رفعه سيد الأنام المصطفى (ص): (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
وللوقوف على ما يمكن تجنب البقاء على الخطأ وتجاوزه، صدر حديثا في بيروت عن بيت العلم للنابهين كتيب “شريعة الفساد” يتناول فيه الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في 75 مسألة شرعية مواضع الخطأ والفساد في حياة المرء مع 22 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، سبقتهما مقدمة للناشر وتمهيد للكرباسي وتقديم للمعلِّق.
وجه الصواب والفساد
من القطع أن الحسن والقبح عقليان، والإنسان بفطرته السليمة يميز بين الحسن والقبح، وبفطرته يدرك حسن الصواب وقبح الفساد، ويدرك أن الصواب عمل صالح والفساد عمل سيء، وأن عامل الخير محسن لنفسه وعامل الشر ظالم لها، وكما قال تعالى في محكم كتابه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) سورة فصلت: 46، فما يقابل الفساد هو الصلاح والعكس صحيح، من هنا يفيد الفقيه الكرباسي في التمهيد أن: (الفساد في اللغة: هو خروج الشيء عن حد الإعتدال، وهو نقيض الصلاح، وفي الإصطلاح الفقهي: كل أمر خالف حكم الشرع فهو فاسد وباطل، سواء كان في العبادات أو المعاملات أو الإيقاعات او الأحكام او غيرها).
وثنائية الفساد والصلاح حقيقة واقعة مفطور عليها الإنسان، وبتعبير الفقيه الغديري في التعليق: “إنّ مقتضيات الفطرة تجلب الإنسان إلى الواقع والحقيقة، والعقل يؤيده، والشرع يؤكده، والعُرف يريد إليه، والذي يحترم ما يحكم به العقل ويهدي إليه الشرع ويقتضي به العرف فهو في عيشة راضية والله يسهِّل أموره في حياته”.
ولا يقتصر الفساد على منحى بعينه، فيمكن تصوره في كل صغيرة وكبيرة، وتعريفه شامل لكي شيء ولكل فرد من أفراد الناس، لأن المعيار في الفساد هو الخروج عن دائرة الصواب أيا كان نوع العمل أو القول أو الإقرار، ولا يختص بالمؤمن الذي يقيم الفرائض والنوافل وعموم العبادات، لأنّ المعاملات التي يشملها الصلاح والفساد غير مقتصرة على المؤمن المتعبد، فالكل برباطهما سيان، راع ورعية، مؤمن وغير مؤمن، ديني ولا ديني، مسلم وكتابي، لأن الفطرة سبيل المرء إلى مرقى الصواب والهناء أو مهوى الفساد والشقاء.
ولكن ثنائية الفساد والصلاح لدى المسلم أمر على غاية في الأهمية، لأنها تدخل في ضميره وتجري في حياته مجرى الدم في العروق، وهو المُبَشِّر بسعادة الدارين إن أصلح الحال وطهّر البال وتحرى الحلال، وهذا ما يُبينه الفقيه الكرباسي في (شريعة الفساد) حيث وضع يده كما لخصتها مقدمة الناشر على: (أحكام فساد العقل، وفساد البيع، وفساد الطهارة، والفساد الإداري، والفساد في الأرض، والفساد الخلقي، وفساد البضاعة، والفساد في العقيدة، وفساد النذر، وفساد القَسَم، وفساد الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والصوم والإعتكاف والحج، وأحكام المعاملات التي يجب مراعاتها لتجنب فسادها، والزواج الفاسد، والطلاق الفاسد، والقضاء الفاسد، والحكم الفاسد، وفساد المال، والدعاية الفاسدة، والربا، والظهار، والغلو) وغيرها من الأحكام من قبيل الإسراف والتبذير، والتعدي على الصحة البدنية وحقوق البيئة والطبيعة وحقوق الحيوان والأرض وسلامة المواصلات وحقوق الأولاد والتربية، وغيرها الكثير، فكل ما يمكن تحقق الظلم فيه وتعدي الحدود فالعنوان العام (الفساد) يشمله.
لكل ذي بصيرة
وإذا كان الصواب والفساد نافذاً لكل شيء ومحيطا به، فلا إشكال بإنه يخص ويعم، وخير الصلاح ما عمّ، وشر الفساد ما عمّ، وإذا لم يتم الوقوف أمام الفاسد عمّ الضرر الجميع وكما قال الرسول الأعظم محمد (ص): (إنَّ المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضر إلاّ عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرَّت بالعامة)، وفي النص النبوي تحذير من ترك الفاسد في غيّه لأن البلاء يعم ولا يخص صاحبه، وهنا يتحقق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مراعاة الشروط، لدفع الآثار السيئة المترتبة على الفساد، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (الإصلاح هو نقيض الإفساد أمر مطلوب شرعاً على القادر بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يصل إلى حد الوجوب، ويدخل في النهي عن المنكر، ولابد من مراعاة شروطه)، على أنَّ الفساد كما يضيف سماحته هو العلّة من التحريم وضرورة مواجهته: (فأينما وُجد الفساد جاءت الحرمة من قبله تعالى، وعليه فكل المحرمات التي حرمها الله في الإسلام جاءت بسبب الفساد الذي يتحقق من فعله).
وكما يتفق الصواب مع النظام يتماهى الفساد مع الفوضى، على أنّ الفوضى في كل ما هو دخيل في حياة المرء يمثل الفساد بعينه حتى وإن غالط المرء نفسه، ولذلك تسالمت المجتمعات صغيرة كانت أو كبيرة على وضع القوانين التي تضبط مسيرتها بغض النظر ما إذا كانت بعضها موافقة للشرع أو مخالفة لها، لأن النظام أمر حياتي لازم: (والحكمة من وراء وضع القوانين هي التخلص من الفوضى وآثارها، ووضع ما هو الأنفع والأسلم للحياة الشخصية والإجتماعية ودفع الأسوأ بالسيء في أبعد مراحله) كما جاء في التمهيد.
من الفساد والصلاح
وحيث يكون الحق يكون الباطل وحيث يكون الصلاح يكون الفساد، فلا حصر لمظاهر هاتين المفردتين المواكبتين للإنسان من مبدئه إلى منتهاه، على أن آثارهما باقية ما بعد الموت، فالذكر الطيب في الميت وخلفه يظل ويسري والذكر السيء يحلّ ويجري.
وحيث يكون الصلاح تكون الحلية المصاحبة للخير والثواب، وحيث يكون الفساد تكون الحرمة المصاحبة للإثم والعقاب، فكما في الخير الغُنم ففي الشر الغُرم، وقد يكون في الفساد الواحد النوعي خراباً ومواتا عامًا كما في قتل النفس المحترمة ويقابلها إحياء النفس، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) سورة المائدة: 32.
ومن الفساد: (الإسراف والتبذير وأكل المال بالباطل).
ومن الفساد: (الزواج الفاسد ما كان محرما شرعاً كالزواج من المحارم، وزواج المسلم من غير المسلمين إلا أهل الكتاب، وزواج المسلمة من غير المسلم).
ومن الفساد: (الفساد الإداري هو العمل بالإتجاه المخالف لما هو مكلَّف به وعدم القيام بما يجب القيام به حسب المسؤولية التي تحمَّلها، وقد تحتوي على مجموعة من المحرمات كسرقة الوقت والمال، وهدر الأموال، وأخذ الرشوة وما إلى ذلك).
ومن الفساد: (الفساد الإعلامي هو نشر ما هو محرم من الأفلام الخلاعية، وما يوجب فساد الأخلاق أو الإنحراف، أو ما يوجب الخوف والرعب، أو الترويج لما هو غير إسلامي أو أخلاقي).
ومن الفساد: (الكذب الإعلامي من الفساد، ففي نقل الخبر الكاذب عن عمد فساد، وفي قلب الحقائق في النقل فساد، وهذا النوع من الكذب أشد حرمة من الكذب العادي).
ومن الفساد: (الدعاية الفاسدة هي التي تتضمن الترويج لشيء باطل أو حرام وإظهار الشيء على خلاف حقيقته، وبالطبع كل ذلك محرم شرعاً).
ومن الفساد: (الحكم الفاسد هو الحكم الذي يتخذه الحاكم وهو خلاف ما أنزله الله سبحانه وتعالى ومخالف للشريعة أو العدالة).
ومن الفساد: (الحاكم الظالم المستبد برأيه هو حاكم فاسد، وحكمه فاسد، ولا يجوز اتباعه)، ويقابله: (فساد الرعية عدم الإنصياع للحاكم العادل، واللجوء إلى الفوضى التي هي مرفوضة في الإسلام، حتى وإن كان في ظل حاكم غير مسلم).
ومن الفساد: (من قطع الرَّحم فقد جفا وأفسد وله إثم، وعليه أن يعيد الصلة بين أرحامه وأقاربه وبالأخص الوالدين).
ومن الفساد: (فساد البضاعة يعني التعامل بما هو ضار مُضر لا يستفاد منه بالوجه المطلوب والصحيح، كفساد البيض والخضار واللحم وما إلى ذلك من الأمور التي يجب مراعاة أن تكون صالحة للتناول لا تسبب المرض أو تزيده، فإن التعامل معه حرام، ولا يصح التعامل مع الشيء الفاسد).
ومن الفساد: (البضائع التي لها وقت معين وتنتهي صلاحيتها تعتبر بضاعة فاسدة، إلا إذا كان لها استخدام آخر غير ما هو معروف عنها، كما لو استخدم اللحم الفاسد كأسمدة كيمياوية، أو لأغراض أخرى عقلائية).
ومن الفساد: (السياقة خلاف القانون، وإذا ما ترتِّب عليه حادث تحمَّل وزره).
ومن الفساد: (من أفسد البيئة ولوَّثها بالغازات السامة أو بغيرها فعليه الضمان، وقد ارتكب ذنباً عظيماً وعقابه شديد).
في الواقع: إنّ ثنائية الفساد والصلاح تشبه إلى حد كبير تلازمية الزرع والحصاد، فما يزرعه المرء أو المجتمع يحصده، إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌّ، والإصلاح رسالة الأنبياء والأوصياء وكل صاحب بصيرة.
الرأي الآخر للدراسات- لندن