أفكار أولية للخروج من لعنة الاقتصاد الريعي 

649

تكاد تكون معظم البلدان المنتجة للنفط عرضة لما يسمى بالمتلازمة الهولندية، حيث إهمال القطاعات الانتاجيه في الزراعة والصناعة و الخدمات والسياحة، والتركيز على انتاج النفط كمصدر رئيسي للثروة، مما يقود الى عدم استقرار الاقتصاد وتعرضه الى ازمات دورية بسبب تأرجح الاسعار العالمية للنفط، كما أن زيادة الايرادات المالية تسهم في رفع قيمة العملة المحلية وارتفاع كلفة انتاج السلع الوطنية، وبالتالي اضعاف قدرتها التنافسية في السوق مقارنة بالسلع المستوردة.

الأنظمة السياسية في ظل الاقتصاد الريعي أنظمة سلطوية، على شكل دكتاتورية فردية، أو رأسمالية قرابيه قائمة على المحسوبية، أو ديمقراطية زائفة تحتكر فيها السلطة و الدولة أحزاب فاسدة تمثل طبقة اوليغاركية نهّابة، وفي كل الحالات تنتشر ظاهرة الفساد ( وإنْ بنسب مختلفة )، إذْ يجري تسابق محموم بين ذوي النفوذ والسلطة للاستحواذ غير المشروع على ثروات شعوبهم، خاصة اذا ما ترافق ذلك مع سياسة نيوليبرالية منفلتة تحت يافطة الاقتصاد الحر، حيث الصفقات المشبوهه و العمولات.
توظف النخب الحاكمة الثروة لتعزيز سلطتها و بناء اجهزتها القمعية، و توزيع الهبات لمريديها بما يضمن بقاءها على قمة السلطة، ومن نافل القول ان تلك الهبات وسياسة الاغراء والترهيب تعمل على تشوّه العلاقة بين المواطن والدولة بما يخلق معوقات جدية في عملية بناء الديمقراطية، فهي علاقة تابع و متبوع قائمة على القسر والعطايا لا على محدّدات وإلزامات عقد اجتماعي، كما ان طبيعة تلك العلاقة تسهم في تنمية الروح الانتهازية و الاتكاليه، وينتج الاقتصاد الريعي مجتمعات استهلاكية يندر فيها الأنتاج والابتكار، وقد يؤجّج الريع النفطي صراعات عنيفة بين مكونات المجتمع على أساس قومي أو مناطقي، يستثمرها عادة الإنتهازيون من الساسة في تعبئة مناصريهم للتسلق الى مواقع النفوذ والسلطة، كأن يطالب مثلاً سكان المناطق المنتجة للنفط بحصة أكبر من الثروة، مما يثير غيض سكان المناطق غير المنتجة له، وقد يصل الامر الى تسويق مشاريع تقسيم وتفكك ( مشروع اقليم البصرة ، والتوتر الدائم بين المركز و أقليم كردستان أمثله على ذلك ). تفضي تلك الصراعات حتماً الى تمزق النسيج الاجتماعي وإضعاف الشعور بالمواطنة وانحسار روح التضامن بين ابناء الشعب الواحد.

في البلدان الديمقراطية ذات المؤسسات الرصينة يتم توظيف عائدات النفط لتدعيم قطاعات الانتاج وتقديمِ الخدمات ورفع مستوى الرفاهية لمواطنيها كما هو الحال في االنرويج. في ولاية ألاسكا بأميركا يتم استثمار نسبة من عائدات النفط في مجالات مختلفة ثم يتم توزيع الارباح على شكل منح مالية بالتساوي للبالغين من مواطني الولايه. وقد توصلت مجموعة من الدراسات الاقتصادية الى إن توزيع إيرادات النفط على المواطنين مباشرة بعد استقطاع بعض الضرائب منها ، ربما يسهم في تخفيف أو معالجة الاشكالات الاقتصادية والسياسية التي ذكرت سابقاً، وقد اقترحت نانسي بيردول و ارفند سبمارانيان في مجلة فورن أفيرز عام 2004 أن تحتفظ الحكومة العراقية بنصف العائدات السنوية للنفط، ثم توزع النصف الباقي بالتساوي على البالغين من المواطنين في حسابات تفتح لهم مجاناً في البنك المركزي، على أن تفرض عليها نسبة من الضرائب. وكان لهذا المقترح مؤيدون و معارضون.

يرى المؤيدون أن المساواة بتوزيع الثروة النفطية تعزز التماسك بين مكونات المجتمع، و تعمل على تنمية الشعور بالانتماء الى الوطن، وترفع من منسوب التعاضد الاجتماعي، كما تسهم في تخفيض نسبة الفقر والتقليل من الفوارق الطبقية، وتعيق ظهور طبقة أوليغاركية تحتكر الثروة، و السيولة النقدية لدى الناس تعمل على تحريك السوق الداخلي وتدوير رأس المال، وتمكّن البعض من انشاء مشاريع استثمارية صغيرة أو شراء الاسهم في مشاريع انتاجية أو خدمية، ومن الجدير بالذكر أن فرض الضرائب على المواطنين قد يسهم في تغيير طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة، فمن جهة ترغم الدولة على تحمل مسؤولياتها ازاء المواطنين لانها بحاجة الى تعزيز الميزانيه من الضرائب، ومن جهة أخرى يتشكل لدى المواطن تدريجيا وعي جديد ورقابي لحكومته، ومدى استجابتها لتلبية حقوقه وما تقدمه من خدمات على اعتباره دافع ضرائب، اي ترتقي العلاقة من علاقه رعية تتوسل عطاءات الحكومة إلى علاقة مسؤوليه متبادلة و مشروطة.
أما محاذير ومخاوف المعترضين على فكرة رفع يد الدولة عن جزء من الثروة وتوزيعها مباشرة على ابناء الشعب، فهي جديرة بالتأمل والدراسة ايضاً.
– يرى المعترضون إستحالة تخلي النخب الفاسدة عن مصدر ثرائهم ونفوذهم طوعاً. ولكن التغيير الجذري مهما كانت صيغته لن يتحقق برضا وطيب خاطر النخب الفاسدة، بل بتنظيم حركة شعبيه واسعة موحدة ومتماسكة بحيث تشكل خطراً حقيقياً على شرعية النخب الحاكمة، وفي حالة العراق يبدو لي ان تعبئة الطبقات الفقيرة والمتوسطة للمطالبة بنقل ثروتهم المنهوبة لأيديهم ممكن مع حملات توعيه مكثفة، وتمثل إنتفاضة تشرين منعطفاً تاريخياً يمكن استثماره بهذا الأتجاه.

– يحذر المعترضون بان المبالغ التي يستلمها المواطنون ستعمل على تنمية روح التكاسل والاتكاليه، فلا يعود للمواطن أي حافز للعمل. لتجنب ذلك يمكن حساب حصة الفرد بحيث تكون داعمة فقط ولا تغني عن العمل، ويمكن أن تشجع الحكومة العاملين في القطاع العام بإعفاء أو تخفيض الضريبة على حصصهم عند استثمارها بشراء اسهم في الشركات التي يعملون فيها، وبهذا يكون للعامل حافز العمل الجاد ليس من أجل أجره فقط، بل لانه يمتلك أسهماً في الشركة، و بالتالي فهو يجدّ لزيادة الارباح وتحسين الانتاج، كما ان تعزيز العاملين لرأسمال الشركة المتواصل من حصصهم النفطية على شكل أسهم إضافية، سيعمل على اتساعها وتطويرها، ويمكن ايضاً للدولة ان تساعد مواطنيها على انشاء مشاريع استثمار يتم تمويلها من قبل العاملين فيها على شكل أسهم على شاكلة شركات موندراغون الاسبانية، التي مازالت تزدهر ولعقود مضت، ليس في نجاحاتها الاقتصادية فحسب، بل في التوزيع العادل للأرباح، والمناخ الديمقراطي في العمل واتخاذ القرارات * ( إقرأ الهامش)
من الجدير بالذكر أن المقصود هنا ليس بيع وشراء الاسهم أو المضاربات المالية على الطريقة النيوالبرالية، والتي تمثل نوعاً من سرقة فائض القيمة وتعرض الاستقرار الاقتصادي للخطر، بل المقصود إنشاء نماذج تشرك العمال في ملكيه وسائل الانتاج.

– هناك من يعبر عن قلقه من تقليص حصة الدولة من عائدات النفط، مما يعيق أداءها في تقديم الخدمات وقدرتها على تمويل مشاريع البناء. إلا ان حاجة الدولة الى تعزيز مواردها المالية سيكون حافزاً لترشيق وزيادة كفاءة أجهزتها بما يضمن تخفيض نسبة الميزانية التشغيلية، وتطوير آليات تحصيل الضرائب وأجهزه الرقابة لايقاف ماكنه النهب والفساد، و يحفّز الدولة على تنويع مواردها عبر التنسيق مع القطاع الخاص مع التركيز على القطاع الوطني، لمكننة الزراعة ودعم الصناعات الخفيفة والاستثمار في المشاريع الخدمية والعقارية والسياحة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي وخفض نسبة البطالة والتقليل من نزيف الثروة الى الخارج وعدم الارتهان للديون الخارجية. وقد يفضي ذلك الى تغيير المعادله السياسية ايضاً، إذ تتوقف الدولة عن لعب دور المتحكم الواهب للمكرمات والعطايا لشراء الولاءات، بل سيكون الولاء مرهوناً بكفاءة برامجها ومستوى أداءها في تقديم الخدمات للمواطن.
– يشك البعض بجدوى التوزيع المباشر للثروة لانعدام الشفافية وضعف المؤسسات، وبالتالي فان آلية التوزيع سيثخللها الكثير من الفساد والتحايل. ولكن الشفافية والمؤسسات الرصينة في كل الاحوال هما شرطان ملزمان للتطور الاقتصادي وبناء الديمقراطية، بل باحتكار الدولة للثروة النفطية بلغ الفساد والفقر في الدول المنتجه للنفط أعلى مدياته. حسب دراسات الصندوق الدولي 34 دولة نفطية لا يتجاوز فيها دخل الفرد دولاراً واحداً باليوم، بل ان نسبة الفقر في نيجريا قد تزايدت الى أكثر من الضعف بعد اكتشاف النفط فيها بدلا من أن تنخفض، أما في العراق فان المؤسسات الهشة وثقافة الفساد التي خلفتها الدكتاتورية، ثم تفتيت الدولة ومؤسساتها عام 2003 بالتزامن مع فرض النهج النيولبرالي وشرعنة المحاصصة قد جعلت من البلاد مستنقعاً آسناً للمحسوبية والفساد و العمولات والرشى.

* هامش:
موندراغون سابع أكبر مجموعة صناعية في أسبانيا، أسسها عام 1956 قس كاثوليكي على أساس مبدأ الشراكة، اي يملكها العاملون فيها على شكل أسهم، وتوضع برامجها الاقتصادية والقرارات الخاصة بالانتاج، وآلية توزيع الارباح وما الى ذلك بطريقة ديمقراطية عبر تداول الآراء وانتخاب اللجان والتصويت، عدد العاملين في فروعها على مستوى العالم يبلغ 84 الفا في عدد من بلدان العالم. اكتسبت كنموذج اقتصادي ناجح ومستقر سمعة جيدة، مما دعا عشرات الشركات الى نسخ تجربتها في الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من الدول الاوربيه.

قصي الصافي

المصدر