مروج الذهب!

444

جواد علي كسار

الحاضر يشبه التاريخ إلى حدّ كبير، فكتب التاريخ ومدوّناته عند المسلمين، هي نوافذ فضلى ليس للسياسة وحدها، بل لكلّ ما تزخر به حياة الناس. فلو أخذنا تاريخ اليعقوبي مثالاً المشهور بـ«مروج الذهب»، تراه يزودنا مقدمة الجزء الثالث بوقائع كاشفة، عن الحالة الثقافية لعامة الناس، أو ما أسماها المسعودي نفسه «أخلاق العامة». يذكر المسعودي نحو عشرين واقعة عميقة الدلالة على التكوين النفسي والحالة الاجتماعية، وتوظيف الحكام لذلك كلّه. منها أن دمشقياً من الشام أقام دعوى ضدّ كوفي من العراق، يزعم أن ناقةَ العراقي ناقتُه، وقد أقام الدمشقي في مجلس معاوية، خمسين رجلاً يشهدون أنَّ ناقة الكوفي ناقته، فما كان من الكوفي إلا أنْ التفت إلى معاوية، قائلاً: أصلحك الله، إنه جمل وليس ناقة! يظهر المسعودي في تاريخه أشبه بالانثربولوجي المعاصر، فهو ينقل زوايا الحياة، كموقف نساء الكوفة ومنعهن عمر بن سعد أنْ يتولى حكم الكوفة بعد حركة التوابين وقبل المختار. كما يحدثنا عن شخصيات لها أدوار كبيرة، لكنها لم تبرز على مستوى الخطّ الأول للسلطة، مثل عبدالله بن مطيع العدوي، وينقل لنا سجالات المقارنة بين المدن والبلدان، مثل المقارنة بين العراق ومصر والشام، أو بين الكوفة والبصرة، وكيف تكشف هذه المقارنات عن رائحة التعصبات القبلية، وأحكام السياسة ومواقف الحكام وانحيازاتهم! قبل أكثر من عشر سنوات كنت في البصرة، وجرى حوار مع أستاذ جامعي مرموق عن دموية الحجاج؛ فكأنه استعظم التهمة، فلجأت إلى تاريخ المسعودي وقرأنا معاً، أن الحجاج الذي توفي عام 95ه عن أربعة وخمسين عاماً، مات وقد أُحصي من قتله صبراً، فوجد مئة وعشرين ألفاً، سوى من قتل في عساكره وحروبه، وترك في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة (ج3، ص191). وعن بذخ القصور وحظوظ الشعراء والمغنين من جوائر السلاطين، يذكر المسعودي أن ابن عائشة المغني دخل على الوليد بن يزيد، فطلب منه أن يغنّيه، فغنّاه ثلاثة أبيات قد طرب لها، فما زال يطلب منه الإعادة ويقسم عليه بذلك، حتى نزع ثيابه وبدلة السلطان وألقاها على المغني، ثم دعا له بألف دينار، وقد كان ثمن الدار الواسعة يوم ذاك ثمانين ديناراً! الحقيقة أن ما دعاني إلى هذه الوقفة، هي تميّز المسعودي في تاريخه على من سواه، في احتواء وقائع حياة الناس وضمها إلى تاريخه، بحيث صارت موسوعة «مروج الذهب» كاشفة عن المجالين معاً؛ تاريخ الحكام والحياة العامة.المصدر