ماهي الأسباب والضرورات لايجاد مناهج تطورية للنظرية الايرانية لولاية الفقيه؟

143

جسار صالح المفتي

يغلب على الفقه الشيعي الاثنى عشري التقليدي الطابع الفردي، ولم تكن مسألة الحكم والدولة من المسائل الخاضعة للبحث إلا بقدر ارتباطها بالفرد، مما يتطلب ملاحقة عدد من الجزئيات المتناثرة في مسائل فقهية وعقائدية في عصور سياسية متعددة كلها تشير بوضوح تام إلى أن الفقه والفقيه الشيعي (بوظيفته الأصلية) لم يكن واردا أن يقوما بالتنظير أو التعاطي مع السلطة الزمنية إلا بوصفها موقعا مقابلا منفصلا تماما قد يمكن التعامل معه إيجاباً أو سلباً.

الشيعة الإمامية

الشيعة الإمامية يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين علياً للإمامة بالاسم والنص المباشر، وإن هذه الإمامة تستمر كذلك في ابنيه الحسن والحسين وتتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرية الحسين، وكل إمام يوصي لمن بعده إلى أن تبلغ الإمام الثاني عشر المهدي الغائب المنتظر.

الإمامة والمهدوية

لم تكن فكرة الإمامة من البداية محددة المعالم، كانت مفتوحة على التاريخ فقهاً واعتقاداً، ومن المفترض أن تمتد من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة يوصي بها كل إمام لمن بعده.

فجوهر النظرية الإمامية يعتمد على القول بعدم جواز خلو الأرض من قائم لله بالحجة (الإمام)، ويجب أن يكون معصوما، وتفوق أحيانا تلك التي يثبتها أهل السنة والجماعة للنبي، وهو مشرع ومبلغ عن الله يتصف بالعلم اللدني الإلهي ويوحى إليه من الله بالإلهام، حتى ذهب بعض المناوئين للشيعة إلى اعتبار أن الإمامة هي النبوة وتخالف ما تسمى بعقيدة ختم النبوة.

قال هشام بن الحكم أقدم المنظرين للإمامة وهو يحاور أحدهم: “ولا بد من أن يكون في كل زمان قائم بهذه الصفة (العصمة) إلى أن تقوم الساعة”. (الصدوق، علل الشرائع 1/240، الباب 155)

ولكن بعد وفاة الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري في سامراء سنة 260هـ دون إعلانه عن وجود خلف له، أحدث شكاً وحيرة بشأن مصير الإمامة. فافترق الشيعة إلى أربع عشرة فرقة كما يقول النوبختي في “فرق الشيعة”، واحدة منها فقط قالت بوجود خلف للإمام العسكري، وأن اسمه محمد، وقد أخفاه والده خوفاً من السلطة فستر أمره.

ويروي الطوسي في “الغيبة” (ص 141 وما بعدها) قصة ولادة المهدي وما فيها من خوارق، وينقل حديثاً للحسن العسكري يجيب به عمته عن مكان ولده: “هو يا عمة في كنف الله وحرزه وستره وغيبه حتى يأذن الله له، فإذا غيب الله شخصي وتوفاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم، وليكن عندك وعندهم مكتوبا، فإن ولي الله يغيبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده، فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرائيل فرسه (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)”. فكانت هذه الغيبة الأولى وتتصل بإخفاء ولادته وسميت الغيبة الصغرى.

استقرار فكرة المهدوية

إن أهمية فكرة المهدي للمذهب الاثني عشري أنها أتمت صورة المذهب عقائدياً، وساعدته على التماسك في وجه التحدي الذي فرضه موت الحسن العسكري دون أن يترك وصياً ظاهراً، فالفترة التي أعقبت موت العسكري اتسمت بحيرة الشيعة وضياعهم، ويصفها محمد بن أبي زينب النعماني في كتابه “الغيبة” (طبعة الأعلمي ص 103): “لأن الجمهور منهم (أي الشيعة) يقول في الخلف (خلف الحسن العسكري) أين هو، ومن يكون هذا، وإلى متى يغيب، وكم يعيش هذا وله الآن نيف وثمانون سنة، فمنهم من يذهب إلى أنه ميت ومنهم من ينكر ولادته ويجحد وجوده ويستهزئ بالمصدق به، ومنهم من يستبعد المدة ويستطيل الأمد. (الغيبة للنعماني ص 103)

ومن رحم هذه الحيرة خرج القائلون بوجود محمد بن الحسن العسكري واعتمدوا في إثبات وجوده على الأدلة العقلية بالدرجة الأولى، ولكنها كانت موجهة للشيعة فقط، فالمسألة مسألة إنقاذ التشيع وليس نشره

يقول الشيخ الصدوق في “إكمال الدين” (ص 36): “إن القول بغيبة صاحب الزمان مبني على القول بإمامة آبائه.. وإن هذا الباب شرعي وليس بعقلي محض“.

وساعد وجود عدد من الأحاديث السنية التي تحدد عدد الخلفاء والأئمة بأنهم اثنا عشر وعن المهدي وصفته أو عن ولادته وغيبته لدى فرق أخرى كالواقفية الذين قالوا بمهدوية الكاظم ومن شابههم.. فقد ساعد هذا كله على استقرار فكرة المهدوية عند الاثني عشرية، ولكن بالمقابل فإن فكرة غياب الإمام تتناقض مع فلسفة الإمامة التي تقول بعدم جواز خلو الأرض من قائم لله بالحجة ووجوب كونه معصوماً ووجوب التعيين له في كل مكان وزمان. (انظر تطور الفكر السياسي الشيعي لأحمد الكاتب ص 242 وص 131).

وهذا يقودنا إلى الحديث عن النيابة الخاصة عن الإمام المهدي في زمن الغيبة الصغرى.

النيابة الخاصة

استمرت الغيبة الصغرى للإمام المهدي من سنة 260هـ إلى سنة 329هـ وهي المدة التي كان يتصل فيها بالناس عبر نوابه(ويسمون السفراء والأبواب) ولم يوثق الاثنى عشرية إلا أربعة نواب مع أخذ ورد، واشترطوا لإثبات النيابة أن يأتي مدعي النيابة بدليل أو بمعجزة وكرامة تدل على اتصاله بالمهدي (وأورد الطوسي في كتاب الغيبة أخبارهم) وينقل منه الرسائل والتواقيع إلى المؤمنين به ويأخذ إليه الأموال.

وكان علي بن محمد السمري خاتم النواب، وتوفي سنة 329هـ، وكان آخر توقيع نقله عن المهدي فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم.. فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصي إلي فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله –تعالى ذكره– وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر”. ولما كان اليوم السادس قيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: “لله أمر هو بالغه” وقضى (أي مات) فهذا آخر كلام سمع منه (انظر الرواية في الغيبة للطوسي ص 242-243).

وبانقضاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى دخل الاثني عشرية في غيبوبة التقية والانتظار.

ففكرة النيابة الخاصة أعطت فرصة للاثني عشرية في مرحلة الغيبة الصغرى كي تعيد النظر في بنائها، واستعملت هذه النيابة في حينها لإثبات وجود المهدي وحماية مذهب الإمامية من الانتكاس والضعف، وأهم ما فيها أنها أرست فكرة جواز النيابة عن المهدي حينئذ، وبهذا أعطت للمذهب الاثني عشري معناه العقائدي، إلا أنها في المقابل فرضت عليه جمودا فقهيا وخمودا سياسيا طال أمده.

ولاية الفقيه وعقيدة التقية والانتظار

بدأت الغيبة الكبرى للإمام المهدي بعد ختم النيابة الخاصة على لسان السمري، وعاد الأمر بالشيعة إلى اللحظة الثقافية السنية التي تقول بخلو الزمان من نبي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يسمى بعقيدة ختم النبوة. إلا أن عقيدة ختم النيابة الخاصة عن المهدي عند الشيعة لم تذهب بهم إلى حيث ذهبت عقيدة ختم النبوة عند السنة، فقد لجأ الشيعة إلى عقيدة التقية والانتظار لظهور المهدي، وذلك لقطع الطريق أمام مدعي النيابة الخاصة وللانسجام مع الأسس التي قامت عليها الإمامة (عدم خلو الأرض من إمام معصوم معين بالنص يتصدى للاجتهاد الديني وللإمامة السياسية).

ومن هنا فقد رفض متكلمو الإمامية الأوائل دعوة المعتزلة والشيعة الزيدية (الذين لم يشترطوا العصمة ولا النص في الإمام) إلى تبني نظرية ولاية الفقيه، التزاماً بنظرية الإمامة والتقية والانتظار، واستناداً إلى فقدان الفقيه للعصمة والتعيين من الله، ولتعارض نظرية ولاية الفقيه مع نظرية الإمامة الإلهية. ودار نقاش حام بين الطرفين حول الموضوع، وقد نقله الشيخ الصدوق في مقدمة كتابه “إكمال الدين وإتمام النعمة” حيث نقل مقتطفات من كتاب “الإشهاد” لأبي زيد العلوي، وكتاب علي بن أحمد بن بشار “حول الغيبة وولاية الفقيه”، ورد الشيخ عبد الرحمن بن قبة عليهما. وقد استند ابن قبة في رفضه لنظرية ولاية الفقيه إلى رفضه للاجتهاد وحتمية وجود العالم المفسر للقرآن الكريم من أهل البيت، واستنتج ضرورة اشتراط العصمة في الإمام. (إكمال الدين وإتمام النعمة ص 94-95).

وبهذا أرخت عقيدة التقية والانتظار بظلالها الكثيفة على الذاكرة الشيعية عموماً وعلى ذاكرة المشتغلين بتنضيد الفكر والفقه الإماميين من علماء وفقهاء.

وفي تواصل مع هذه الحقيقة أسست المدونات الشيعية الأولى في إحدى مهماتها وتجلياتها وعياً انتظارياً وفقهاً إخبارياً روائياً يرفض الاجتهاد ويفضي الى تعليق وظائف الدولة الدينية الرئيسية: جباية المال (خمس وزكاة) وإمضاء الحدود والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة صلاة الجمعة وغيرها.. علقت كل ذلك على وجود الإمام المعصوم، أي ظهور المهدي المنتظر، فالغيبة في الرؤية الشيعية كما يقول فؤاد إبراهيم (صاحب كتاب الفقيه والدولة، دار الكنوز ص48-49):

أولا: تعبير احتجاجي على الدولة القائمة يستبطن حجب مشروعياتها.. إلا في زمن الظهور

ثانيا: أن الغيبة تعني انقطاع إمكانية تحقق الدولة الشرعية (الإمامة) بما يشي أن المحاولة من بعده:

1- ليست ذات جدوى، يقول الشيخ مفيد “ولو كان في المعلوم للحق صلاح بإقامة إمام من بعده لكفى في الحجة وأقنع في إيضاح المحجة”. (المسائل الصاغانية للمفيد، طبعة دار المفيد، ص 75).

2- أن الإمامة في وعي الفقيه.. تقع خارج إطار القدرات البشرية.. منظوراً إلى أن الدولة/ السلطة ليست من مهمات غير الإمام الغائب. وفي هذا يذكر الشريف المرتضى في كتاب (الشافي في الإمامة، ج1/ ص112) ما نصه: “ليس علينا إقامة الأمراء إذا كان الإمام مغلوباً، كما لا يجب علينا إقامة الإمام في الأصل.. ليس إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزم إقامته، ولا نحن المخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذم بتضييعها“.

3- لو أن ثمة إمكانية لتحقق دولة الحق لحبطت الغاية من الغيبة، لأن الاستتار تعبير عن عدم إمكان تحقق الدولة الشرعية.

ويعقد الشيخان المفيد والطوسي لهذه النقطة مقارنة بين مواقف الأئمة السابقين وموقف الإمام الثاني عشر. يقول المفيد: “إن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمة عليهم السلام التقية وتحريم الخروج بالسيف على الولاة” (المسائل الصاغانية للمفيد – طبعة دار المفيد ص 74).

وكان ذلك يعني إرجاء “إزالة دولة الباطل وإقامة دولة الحق” إلى حين ظهور الإمام المهدي، مما أضفى لوناً قدرياً على الفقه السلطاني الشيعي يحيل إلى تقرير الحتمية التاريخية التي تتوج بالوعد الإلهي بظهور الإمام المهدي..

وانطلاقا من هذه الخلفية القدرية، يستقيل الفقه السلطاني الشيعي أمام الواقع للاضطلاع بمهمة بناء المعرفة الدينية بأمور الغيبة، وصناعة جيل من المنتظرين المتناسلين على امتداد التاريخ حتى تحقق الحتمية التاريخية (ظهور الإمام المهدي).. وهكذا يسقط الفقيه بحث أسس الدولة وإدارة الناس كحاجة اجتماعية ماسة وواقعية، ويتلبس بالتنظير للغائب، فهذا محمد بن إبراهيم النعمان (ت 342هـ – 953م) يؤكد في كتاب “الغيبة” أن الإمامة –حتى في عصر الغيبة– جعل إلهي، وقال: “فمن اختار غير ما اختار الله وخالف أمر الله سبحانه ورد مورد الظالمين والمنافقين الحاليين في ناره“.

ويستشف من هذا النص أن لا سبيل إلى العمل على إقامة سلطة أو انتخاب حاكم حتى ظهور الإمام المنتظر، يؤكد ذلك دعوته للشيعة بـ “الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره”، وعزز ذلك برؤيات تحث على الانتظار في عصر الغيبة.. (انظر الغيبة للنعماني – ص 577).

ونسج عدد من مشاهير فقهاء الشيعة على منوال النعمان مثل الغرار الرازي الضمي (381هـ) في “كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثنى عشر”، وابن بابويه محمد بن علي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381هـ) في “إكمال الدين وإتمام النعمة” و”الاعتقادات”، والشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (ت 460هـ) في كتاب “الغيبة“.

لقد كان الدافع للشيعة في نفي الاجتهاد شبهة استغناء الأمة عن الحاجة إلى المعصوم

وقد انعكست تلك المعتقدات التي قال بها فقهاء الشيعة الأوائل على تصنيفاتهم الفقهية فقرروا تعطيل بعض الحدود والأحكام، وما يدخل حسب اعتقادهم في ولاية الإمام المعصوم.

ونقف في بحوث الجهاد والقضاء الشرعي وصلاة الجمعة كمعايير اختبار لمشروعية الدولة في الفقه الشيعي.. فقد اشترط فقهاء الشيعة الإمامية وجود “الإمام العادل” أي المعصوم أو نائبه الخاص كشرط لوجوب الجهاد وإقامة الحدود وصحة انعقاد صلاة الجمعة.

ذروة الاجتهاد وبذور ولاية الفقيه

لقد كان الدافع للشيعة في نفي الاجتهاد شبهة استغناء الأمة عن الحاجة إلى المعصوم. ففي هذا السياق منع الشيعة الأوائل الاجتهاد، واكتفوا بجمع الأخبار وتدوينها، فكانت وظيفة الفقيه الرواية فقط بناء على الاعتقاد السائد بكفاية النص الديني في غياب المعصوم، مما يحيل إلى نفي مطلق لنيابة الفقيه عن الإمام المعصوم، وما زال لهذا الخط أنصار ويسمون “بالإخباريين”. والحقيقة أنها الصورة الأصلية التي ولد عليها التشيع الاثني عشري.

ودأب علماء الشيعة الأوائل على منع الاجتهاد ورد القياس، فألف النوبختي في القرن الثالث الهجري كتابين في إبطال القياس ونقض اجتهاد الرأي، ولأئمة أهل البيت روايات في ذلك منها عن الإمام جعفر الصادق: “إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعداً”. (أصول الكافي للكليني 1/75).

ولما ألف محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي (ت 378هـ) كتابه “تهذيب الشيعة” وأخذ فيه بالقياس والاجتهاد واستنبط الفروع على طريقة فقهاء السنة، أثار حفيظة العلماء فردوا عليه، منهم المفيد في “النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي”، وقال في رسالة “في أجوبة المسائل السروية” (طبعة دار الكتب التجارية ص 56-57): “فأما كتب أبي علي بن الجنيد فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن واستعمل فيها مذهب المخالفين والقياس ولم يفرد أحد الصنفين عن الآخر“.

وقال المرتضى في “الانتصار” رداً على الجنيد: “إنما عول ابن الجنيد على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطؤه ظاهر”. وقال في “الشافي في الإمامة”: “إن الاجتهاد والقياس لا يثمران فائدة ولا ينتجان علماً فضلاً عن أن تكون الشريعة محفوظة بهما” (1/169).

ونجد أن الطوسي وهو علم من أعلام الخط الأصولي الاجتهادي، بل يعده البعض المؤسس لهذا الخط، نجده في كتابه “العدة في أصول الفقه” في باب الكلام في الاجتهاد قد بالغ في نفي القياس بما يؤدي إلى تعطيل الاجتهاد، رغم أنه لا يرمي إلى ذلك.

ولكن الأمر لم يستقر على ذلك، فاستطالة ظهور الإمام المهدي وتقدم الزمن وإلحاح الحاجة وكثرة النوازل قد دفعت ببعض فقهاء الإمامية للسير قدماً في فتح باب الاجتهاد وخرق أبواب فقهية كانت محكمة الإغلاق، حتى كتلك المتوقفة على وجود الإمام المهدي كالجهاد والجمعة وإقامة الحدود.. وغيرها، وعندها تمايزت الشيعة فقهيا إلى خطين: خط أصولي وخط إخباري.

ونجد أن بعض العلماء الذين منعوا الاجتهاد ونفوا القياس قد أخذوا بهما في كتبهم عمليا كالمفيد والمرتضى والطوسي، وأنكروا على الأخذ بالأخبار والواقفين عليها، حيث نقد المفيد الشيخ الصدوق والإخباريين في كتابه “شرح عقائد الصدوق أو تصحيح الاعتقاد” وبأنهم “يمرون على وجوههم فيما سمعوه من أحاديث ولا ينظرون في سندها ولا يفرقون بين حقها وباطلها ولا يفهمون ما يدخل عليهم من إثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منهما“.

وقد تمايز مع الطوسي العالم الراوي في الخط الإخباري عن العالم المجتهد في الخط الأصولي، ولكن أعقب الطوسي جمود فقهي حيث هيمنت آراؤه ما يربو على القرن، ولم تتحرر منه الشيعة إلا على يد علماء “الحلة”، حيث تحولت مدرسة “الحلة” إلى منهج في السلوك العقلاني تجاوز الكيان المرجعي الذي فرضه جيل المفيد والمرتضى والطوسي، وبدأ هذا التحول بالشيخ نجم الدين جعفر بن الحسن المعروف بالمحقق الحلي (602-676هـ) الذي استطاع أن يحرر الشيعة من القياس الذي أخذ صورة مقيتة في نظر الشيعة بسبب الروايات الذامة له، وأن يفصل بينه وبين الاجتهاد (انظر معارج الأصول، طبعة مؤسسة آل البيت 1/179)، ودأب الشيعة من بعده على تأكيد مبدأ الاجتهاد وعلى تكرار تأكيد نبذ القياس، رغم أنهم أثبتوا العقل كمصدر من مصادر التشريع وهو أعم من القياس.

واحتل الفقيه بهذا موقعاً مميزا بعد أن أخذ موقعه إلى جانب النص، حيث ذهب محمد بن مكي العاملي (ت 876هـ) المعروف بالشهيد الأول إلى “وجوب الاجتهاد على من لديه القدرة وأوجب على العاجز التقليد” (انظر الذكرى طبعة حجرية ص 129).

وفي العصر القاجاري دافع الشيخ الجناحي (كاشف الغطاء) (ت 1228هـ) عن مبدأ الاجتهاد في مواجهة الإخباريين وجعله من “المناصب الشرعية” وأن المنكر لذلك “جاحد بلسانه معترف بجنانه وقوله مخالف لعمله” (انظر كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، انتشارات مهدوي ص 43).

وجاء من بعده تلميذه المولى محمد النراقي (ت 1249هـ) وزاد على أستاذه في إضفاء طابع ولايتي على الاجتهاد يستمد مشروعيته من الله عز وجل وقال بأن “ولاية الاجتهاد.. حق ثابت من الله ومن حججه للمجتهد”، ولهذا لا بد “من وجوب الرجوع إليهم” أي للفقهاء (انظر مستند الشيعة للنراقي، طبعة مكتبة آية الله المرعشي 2/132، 517، 523). وكذلك ذهب الشيخ مرتضى الأنصاري (1214-1281هـ) والذي عرف بخاتم المجتهدين في تقرير أصولي إلى “بطلان عبادة تارك طريقة التقليد والاجتهاد” (انظر فرائد الأصول للأنصاري، مؤسسة النشر الإسلامي، تحقيق التوري 1/275).

وأنزل من بعده تلميذه السيد محمد كاظم اليزدي الرأي الأصولي لأستاذه منزلة الفتوى الملزمة (العروة الوثقى ص2)، ويعد اليزدي أول من أثبت باباً بعنوان “باب التقليد والاجتهاد” حيث وضع هذا الباب في كتابه “العروة الوثقى”، وهو الرسالة العملية الواجب على المقلد امتثال ما جاء فيها، وسار فقهاء الشيعة من بعده على منواله، وتكرست مرجعية الفقهاء ودورهم في النيابة عن المعصوم في الاجتهاد والمرجعية الدينية.

وهكذا تبدلت وظيفة الفقيه من راو إلى مجتهد إلى منصب شرعي إلى ولاية مستمدة من الله، فتحت الباب أمام ولاية الفقيه المطلقة.

السلطة السياسية وولاية الفقيه

إن النيابة الخاصة التي استدعتها غيبة الإمام الصغرى قد أعطت إشارة إلى فكرة النيابة العامة للفقهاء في الغيبة الكبرى، وإن كانت الأولى في عصر الغيبة الصغرى تعينت بإذن الإمام ونصه، فإن الثانية في الغيبة الكبرى وجدت بتأويل نص الإمام والشارع (أي بالاستنباط والاجتهاد).

فمنذ أن فتح الأصوليون باب الاجتهاد في عصر الغيبة الكبرى حتم التطور التاريخي للاجتهاد الوصول إلى فكرة ولاية الفقيه، بغض النظر عن حدودها أو سلطاتها، لأن ولاية غير الفقهاء (أي حكومة مدنية) لن تخلو من تعد على النظام الإمامي لتوقف شرعية الكثير من الأعمال المرتبطة بالمجتمع على إذن الإمام المعصوم. وهذا ما يفسر إجازة بعض الفقهاء النيابة في بعض الولايات، كالولاية على الخمس والزكاة على سبيل المثال.

وبناء على هذه المقدمة فإننا لن نتتبع الجزئيات الاجتهادية والتي شكلت خروقات لعصر الغيبة الكبرى، حيث أجاز العلماء ما لم يكونوا يجيزونه لضرورات حتمت ذلك، وهي تطورات في خط الاجتهاد الديني وإن ساهمت في التطور السياسي في المذهب، وسنكتفي بالوقوف عند أهم المحطات التي شكلت قفزة في التفكير السياسي الشيعي.

المحقق الكركي والنيابة الملكية

أهم محطة عملية وعلاقة سياسية نشأت بين الفقيه والسلطان وكان لها صدى في العقل الشيعي, تجربة المحقق علي الكركي (ت 940 هـ) مع الشاه طهماسب الصفوي الذي كان بأمس الحاجة للسلطة الدينية ليعمل على مواجهة القزل باش الذين كانوا يهيمنون على مفاصل الدولة وكان قد أنهى تمرداً لهم تواً. فكتب إلى المحقق علي الكركي سنة 939 هـ يدعوه للمشاركة معه في الحكم ولقبه بنائب الإمام المهدي (انظر إلى إيران والإسلام لمرتضى مطهري 338).

ومما جاء في الرسالة: “.. إلى من اختص بمنزلة أئمة الهداة في هذا الزمان.. نائب الإمام –إلى أن قال– نأمر جميع السادة العظام.. وجميع أركان الدولة الاقتداء بالمشار إليه -أي الكركي– ويجعلوه إمامهم في جميع الأمور وينقادوا له ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ويعزل كل من يعزله من المتصدين للأمور الشرعية في الدولة والجيش, وينصب كل من ينصبه ولا يحتاج في العزل والنصب إلى وثيقة أخرى” (رياض العلماء وحياض الفلك، طبعة إيرانية ص 448).

وهكذا حكم طهماسب بالشرعية التي منحه إياها المحقق الكركي. وهذا ما حصل مراراً مع الصفويين حيث كانوا يكتفون أحياناً بإجازة الفقهاء ليحكموا فيقربوهم منهم لهذه الغاية.

ورغم أن المحقق الكركي لم يتجاوز العام في هذا المنصب حيث توفي سنة 940هـ, إلا أنه أسس لقيام مؤسسة دينية في حجر الدولة الصفوية, مما أثار جدلاً بين علماء الشيعة بين ذاهب لتأييد التواصل مع السلطة وبين مستنكر لأي نوع للعلاقة معها لأنها غصبية معتدية على حق المهدي.

ولعل السجالات التي حصلت بين الكركي والشيخ إبراهيم القطيفي (ت 950 هـ ) تعكس بعضاً من وجهات نظر المتنازعين, وكانت قد بدأت هذه السجلات قبل قدوم الكركي إلى إيران, ولكنها اكتسبت جديتها وأبعادها المؤثرة بعد استلام الكركي لمنصبه الديني في الدولة الصفوية.

وأبرز مواضيعها: صلاة الجمعة وقال فيها الكركي بالوجوب التخييري بينما منعها القطيفي, ومسألة جواز قبول الهدية من السلطان والتي أثارها القطيفي برفضه هدية أرسلها إليه الشاه طهماسب واستنكر ذلك الكركي وحصل بينهما مساجلة جعلت الفقهاء في مراحل لاحقة يعطون هذه المسألة أهمية خاصة في أبحاثهم الفقهية.

وكذلك كان “الخراج” من المسائل التي احتدم الخلاف بينهما حولها, فالكركي أجاز أخذ الخراج حال غيبة الإمام وذلك في رسالته “قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج”، بينما جعله القطيفي من خصوصيات الإمام المعصوم والتي لا تجوز في زمن الغيبة، وحمل بشدة على الكركي وقال بزيف جميع ما في رسالته من أدلة الجواز.

وكان القطيفي ينطلق في سجالاته من خلفية نافية لأي ولاية في غياب المعصوم, ومحرمة لإقامة أي سلطان غير سلطان الإمام في عصر الغيبة.

بينما كان المحقق الكركي يرتكز في مساجلاته وفي فتاواه إلى خلفية تقول بأن الفقيه المأمون الجامع للشرائط منصوب من الإمام المهدي، وبالتالي فهو الذي يعطي للحاكم شرعية حكمه, ولعل هذا ما شجع طهماسب للاستعانة به ونصبه إماما دينياً, فكانت إمامته تطوراً كبيراً في التفكير السياسي الشيعي على يد المحقق الكركي، أثبته وجسده قولاً وعملاً رغم أنها افتقرت إلى نظرية كلية وواضحة, اللهم إلا ما كان في رسالة طهماسب وما في بعض اجتهادات الكركي الجزئية التي أجاز نيابة الفقيه فيها مع أنه توقف في النيابة في أمور أخرى كالزكاة والجهاد مثلا مما يشير إلى تردد الكركي أو إلى عدم وصوله إلى نظرية حاسمة في الحكم, لهذا لم تستمر الإمامة من بعده, لكنه فتح الباب أمام فكرة ولاية الفقيه. (انظر جامع المقاصد للكركي 2/378 وما بعدها، 3/37 و47 و370 و489 وما بعدها، وانظر الفقيه والدولة ص 153 وما بعدها).

التنظير لولاية الفقيه في العصر القاجاري

أسس الكركي لباب يضفي الشرعية المجملة على الملوك الصفويين بإعطائه طهماسب وكالة للحكم باسم نائب الإمام الفقيه العادل، ولكنه في الوقت نفسه أسس لشرعية سياسية بتدخل العلماء في السلطة والسياسة, بل كسر الحاجز الذي كان بين الفقيه والحاكم في الفقه الإمامي.

ورغم السجالات التي عادت بقوة بين الإخباريين والأصوليين بعد انهيار الدولة الصفوية في القرن الثاني عشر والتي استمرت مع الحكم القاجاري، فإن دور العلماء كان قد أصبح أكثر ثقة بنفسه وتعزز إلى حد تجاوزه لدور الحاكم أحيانا كما حصل مع السيد محمد المجاهد حيث أطلق المقاومة ضد الاحتلال الروسي لشمال إيران بعد تباطؤ الشاه الذي اضطر لمسايرة العلماء في إعلان الجهاد والمقاومة في سابقة نوعية يتجاوز فيها الفقهاء الحاكم وسلطته.

النراقي وولاية الفقيه

وفي السياق نفسه توجه المولى أحمد النراقي (ت 1245 هـ) إلى تعزيز دور الفقيه, وبوأه مركز السلطة بطرحه نظرية “ولاية الفقيه” بصيغة تعد خرقاً واضحاً للإجماع الشيعي في مسألة الولاية, حيث أثبت للفقيه كل ما هو للنبي والإمام “إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما” بناء على أن مصدر الولاية والتشريع هو الله وحده لا شريك له, وأن الشارع منح الولاية إلى الأنبياء ثم الأوصياء ثم الفقهاء.

ويقول: “إن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم, ولا بد من الإتيان به, ولا مفر منه إما عقلاً أو عادة, من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه, وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به, أو شرعاً من جهة ورود أمر به, أو إجماع, أو نفي ضرر, أو إحراز, أو عسر أو حرج, أو فساد على مسلم, أو دليل آخر, أو ورد الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة فيه, فهو وظيفة الفقيه, وله النصر فيه والإتيان به”. (ولاية الفقيه للنراقي طبعة دار التعارف ص 69).

وقد أصبح هذا المعنى الذي قدمه النراقي هو المعنى الاصطلاحي للقائلين بـ”ولاية الفقيه”, وهذا ما دفع الشيخ محسن كدوير في كتابه “نظرية الحكم في الفقه الشيعي” (ص 24) إلى أن يعتبر أن “النراقي هو أول فقيه بحث التفصيل في مسألة ولاية الفقيه وجعل منها مسألة فقهية مستقلة”، وأن رأيه هو “أول رأي يصرح بوجوب الدور السياسي للفقهاء“.

واستدل النراقي على جواز الولاية للفقهاء وحصرها فيهم بالأخبار والإجماع والضرورة والعقل. فعلى صعيد الأخبار أورد تسع عشرة رواية لا يسلم معظمها -أو كلها بالأحرى- من النقد في إسنادها ومن الجدل في دلالاتها, وما زال بعضها مدار الاستدلال على “ولاية الفقيه” إلى يومنا هذا.

من أبرز هذه المسائل مكاتبة إسحاق بن يعقوب ومقبولة عمر بن حنظلة. أما المكاتبة ففيها: “وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم”. (النراقي ص 44-45, وذكره الصدوق في أعمال الدين في الباب “التاسع والأربعون” وانظر الاحتجاج 2/281, والغيبة للطوسي ص 176, ووسائل الشيعة للحر العاملي في الباب من أبواب صفات القاضي).

وأخذ على الرواية مسائل منها جهالة أحد رواتها وهو إسحاق بن يعقوب الكليني حيث قال البعض بأنه أخ للشيخ الكليني صاحب الكافي وهو أمر لم يثبت, ورغم أن الشيخ الكليني من رواتها فهو لم ينقل الرواية في الكافي والرواية في متنها تتحدث عن الرجوع إلى “رواة حديثنا” بالمعنى الإخباري كما هو الظاهر, لا إلى الفقهاء بالمعنى الاجتهادي الذي استقر عند متأخري الأصوليين.

وأما المقبولة ففيها: “ينظر إلى من كان منكم قد روى حديثنا, ونظر في حلالنا وحرامنا, وعرف أحكامنا, فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً, فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد, والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله”, (النراقي ص 56).

والمقبولة واردة في القضاء حيث سئل أبو عبد الله عن رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء (أي السلطة غير الشرعية), فإيرادها في مورد الاستدلال بالرواية على الولاية أمر متعذر, أوردها الكليني في كتاب القضاء والأحكام في باب كراهية الارتفاع إلى قضاء الجور, وأوردها الحر في الوسائل في الباب من أبواب صفات القاضي. وسند الرواية ضعيف الإسناد بعمر بن حنظلة, ولكنها منجبرة لإقبال العلماء عليها ولهذا سميت بالمقبولة.

ولعلماء الشيعة أجوبة على ما أوردنا (انظر كتاب الفقيه والسلطة والأمة على سبيل المثال ص 67و 82 وولاية الفقيه في عصر الغيبة سلسلة صادرة عن جمعية المعارف ص 16 وما بعدها). ولسنا في مورد مناقشتها أو توهينها, وغاية ما نريد قوله إن الاعتماد على الرواية كأساس لإثبات ولاية الفقيه أمر متعذر إن لم يكن مستحيلاً خاصة إذا أخذنا نظرية الغيبة بعين الاعتبار, وإنما تطور الدليل العقلي في الفقه الإمامي وتناميه على حساب الدليل الإخباري وصل بفقهاء الشيعة للقول بها, فاستفاد النراقي من الذخيرة الاجتهادية التي تركها من قبله من الأصوليين والتي خرقوا فيها جدار نظرية الغيبة بعد صراع مرير مع الإخباريين في أبواب الاجتهاد التي لم يكتف فيها النراقي بتوسيع صلاحية الفقيه في الأمور الحسبية، بل تجاوز ذلك إلى الأمور الولائية فوسع وظيفة الفقيه لتشملها بشكل مطلق كالتصرف في الأموال المتعلقة بالإمام المعصوم, وأثبت للفقيه كل ما يثبت للمعصوم إلا ما استثناه الدليل, وجعل الأدلة الواردة في ضرورة وجود إمام معصوم لانتظام أمور الناس أدلة لضرورة وجود الولي الفقيه للسبب نفسه, وبنى بهذا أساسا وإطارا محدداً للقائلين بنظرية “ولاية الفقيه“.

ولاية الفقيه ما بعد النراقي

نشط فقهاء الشيعة المعاصرون للنراقي والمتأخرون عنه في تداول هذه المسألة فبحثها الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر (ت 1266 هـ) وعضد إلى حد ما رأى النراقي. ولكنه قصر عنه حيث قال: “لولا عموم الولاية (أي للفقهاء) لبقيت كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة”. فأثبت الولاية العامة للفقهاء مستدلاً بمقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ولكنه يعود إلى نظرية الغيبة فيقول: “نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد عن ذلك ونحوه، وإلا لظهرت دولة الحق..” (انظر ظواهر الكلام 21/397) وكأنه أثبت النيابة للفقهاء فيما رآه من ضرورات زمنه, وترك للمهدي وظيفة الجيوش والجهاد التي تحمل المعنى السياسي الكامل لولاية الفقيه, وأنها لو ظهرت هذه الجيوش لظهر المهدي لأنها الوظيفة التي تحتمها نظرية الغيبة.

وبحث الشيخ مرتضى الأنصاري نظرية أستاذه النراقي وانتقدها بشدة في كتابه “المكاسب” وقال عن الروايات المستدل بها على ولاية الفقيه على فرض صحتها: “لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية, لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً”. وانتهى إلى القول “فإقامه الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل دون خرط القتاد”. (انظر كتاب المكاسب ص 153 وما بعدها طبعة حجرية). ولكنه رغم ذلك أجاز النيابة الجزئية للفقهاء, أي المرجعية الدينية التي يمكن الرجوع إليها في الأمور التي لم تحمل على شخص معين.

وبعد الأنصاري توقف البحث الخاص في ولاية الفقيه كنظرية معتبرة بالمعنى الذي أطلقه النراقي إلى أن جاء الإمام الخميني وأعاد إحياءها.

الحكومة الدستورية ورسالة النائيني

“بسم الله الرحمن الرحيم.. إن استعمال التنباك والتبغ اليوم بأي نحو كان يعد في حكم محاربة إمام الزمان (أي المهدي) عجل الله فرجه“.

هذه الكلمات من المرجع الأعلى محمد حسن الشيرازي (سنة 1891 م) أثارت البلاد في وجه الشاه ناصر الدين وأجبرته على إلغاء اتفاقية التنباك الموقعة مع شركة بريطانية (انظر طلال المجذوب “إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة” ص 108 طبعة ابن رشد، و”لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” طبعة لندن 3/95).

وورث السيد محمد الطبطبائي هذه الروح الإصلاحية من أستاذه الشيرازي وشارك في حركة اعتراضيه ضد مظالم الشاه مظفر الدين في سنة 1905, وبعث إليه برسالة فيها: “يا صاحب الجلالة، إن كل هذه المفاسد تحل عن طريق مجلس للعدالة, أي جمعية مؤلفة من كافة أبناء الشعب..”. واقر الدستور سنة 1906, وأسس مجلس للشورى, وأقر المذهب الاثنى عشري مذهباً رسمياً, ونصت المادة الثانية على عدم جواز أن تتعارض قوانين مجلس الشورى مع قواعد الإسلام, وأسندت هذه المهمة للعلماء. (انظر نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص 126).

ولم يعمر المجلس إلا ثلاثة أشهر وسقط بموت الشاه مظفر الدين ومجيء ابنه محمد علي لسنتين (1907 – 1909)، واستعان بالعلماء لتعطيل الدستور، منهم الشيخ فصل الله النوري الذي وقف في وجه دعاة المشروطة بقوة وعنف معللا ذلك بقوله: “إن هؤلاء باستخدامهم كلمات مغرية من قبيل العدالة والشورى والحرية يريدون خداع المسلمين وجذبهم إلى الإلحاد.. وغيرها من الأعمال المنافية للإسلام حتى يترك الناس الشريعة والقرآن“.

وفي الجهة المقابلة صدرت من علماء النجف منهم الآخوند محمد كاظم الخرساني فتوى تقول بأن موافقة ومساعدة كل مخالف للمشروطة القويم والتعرض للمحامين عنها “هو محاربة لإمام العصر عليه السلام“.

وبرزت حركة مضادة لحركة الدستور داخل الوسط الحوزوي بقيادة السيد محمد كاظم اليزدي وهو أحد الأنصار البارزين للولاية الجزئية للفقيه والمقتصرة على الأمور الحسبية, والمعارض بشدة لولاية الفقيه المطلقة, ولانخراط العلماء في الشأن السياسي.

وانقسم العلماء إلى فريقين كما اصطلح عليهما: أنصار المشروطة (الدستور) وأنصار المستبدة، وتبادلوا الفتاوى والردود. وهنا برزت رسالة العلامة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني والذي يعتبر مفكر الحركة المشروطية الأبرز وقد نشر آراءه في كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” سنة 1327 هـ في النجف. وقد أيده مباشرة بعض المراجع الكبار في ذلك الوقت.

وقد أقام النائيني في الكتاب الدليل على شرعية الحكومة المشروطة ورد إشكاليات المعارضين لها معتمداً في ذلك تقسيماً مبتكراً يراعي فيه الشرعية السياسية بمعناها المدني ويقر بغصبية السلطة باعتبار أنها حق ديني للإمام المعصوم.

فالنائيني يرى “أن الحاكم الظالم الذي لا يقيد بدستور أو مجلس شعبي (برلمان) يغتصب أمرين معاً في آن واحد, حق الإمام الغائب وحرية الناس, كما الحاكم الذي يقيد بدستور ومجلس الشعب فهو يغتصب حق الإمام وحده بينما يؤمن حريات الناس, ولهذا يجب أن يظل حكمه هو المفضل طالما أن غيبة الإمام مستمرة“.

فهدف النائيني أن يحقق مصالح الناس ويخفف من غصبية السلطة, لأن الحاكم المستبد مغتصب لحق الله والإنسان “بخلاف الحكم الدستوري الذي هو عبارة عن ظلم واغتصاب مقام الإمام المقدس فقط“.

فالنائيني يتحدث عن العدل الممكن في غياب المعصوم لأنه لا يؤمن بولاية الفقيه المطلقة (كما في كتابه منية الطالب) “ولأن الحاكم العادل المثالي لا يوجد” ولهذا لا بد من تحديد صلاحياته بالدستور والقوانين.

ولكنه رغم ذلك لم يبتعد عن ولاية الفقهاء بالمطلق, بخاصة في الأمور الحسبية, لأنها القدر المتيقن بنيابة الفقهاء فيها. ووجد في الشورى تأكيداً لدورهم ويقول: “إن مجلس الشورى على نظرية أهل السنة يعني أهل الحل والعقد وعلى نظرية الشيعة حيث يعتبر الفقهاء نواباً للإمام المهدي الغائب, يخضع لإشراف الفقهاء أو إشراف المأذونين من قبلهم“.

وبهذا ينقل النائيني الخطاب الشيعي من البحث حول المشروعية الدينية بإقراره بغصبية السلطة بالمنظور الديني, ليتجاوزها إلى البحث في المشروعية السياسية المدنية المستمدة من الناس.

حكومة ولاية الفقيه والإمام الخميني

“لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين (العلم بالقانون والعدالة) بتأسيس الحكومة، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص) ويجب على جميع الناس إطاعته. فتوهم أن صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع) وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه, هو توهم خاطئ وباطل“.

هذه الفقرة من كتاب “الحكومة الإسلامية” للإمام الخميني تدخل بنا مباشرة إلى ولاية الفقيه كما نظر إليها الإمام النراقي مستدلاً بأدلته مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها معتمداً على قواعده الفكرية واجتهاداته التي كان قد أرساها بعد نفيه إلى العراق من قبل الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1963م. وذهب إلى أن الأدلة التي تدل على وجوب الإمامة هي نفس الأدلة التي تدل على وجوب ولاية الفقيه, وأنها من الأمور الاعتبارية العقلانية (التي توجد بالجعل والتبني والوضع الإنساني) أيضاً, وذلك كجعل القيم للصغار, وأن القيم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة. (انظر الحكومة الإسلامية, مركز بقية الله, الطبعة الثالثة ص 109).

وأن الفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل, ولم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات, فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضا. (انظر كتاب البيع للخميني ص 92, والحكومة الإسلامية ص 150 – 151).

وللخروج من مشكلة تزاحم الفقهاء باعتبار أنهم كلهم ورثة وليس واحداً بعينه, يقول: “إن الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه, ولكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصديه, نستصحب ولاية الثابتة قبل تصدي الأمر.. فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر لذلك”. (البيع ص 518).

وينطبق هذا على الإمام الخميني حيث حاز الولاية بالتصدي, مع استصحاب الأصل الذي يجتمع فيه مع غيره من الفقهاء أنهم ورثة الأنبياء بالفقاهة, ولكنها تستمر فيمن بعده بالانتخاب من قبل مجلس الخبراء, كما هو الحاصل مع الإمام خامنئي.

حدود الولاية وصلاحيات الولي الفقيه

عند البحث في صلاحيات الولي الفقيه كما هي في الدستور الإيراني عبر تتبع المواد المتعلقة به وبالولاية, فإننا لن نخرج بنتيجة حاسمة كتلك التي تعطينا إياها الرسالة التي بعث بها الإمام الخميني في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1988م إلى الإمام خامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك, وفيها صورة لولاية الفقيه المطلقة وإطارها المرجعي كما يراه الإمام الخميني. وبعد وفاته انعقدت الدورة الخامسة لمجلس الشورى وأدخلت ولاية الفقيه المطلقة في الدستور وفاء للإمام الخميني في سياق التأكيد على تجسيد الدولة فكر مفجر الثورة. (انظر نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص33-34.

الخميني:

الحكومة (ولاية الفقيه) شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام, ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج

وذلك أنه بعد عشرة أعوام من تجربة الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران تفجرت أزمة تشريعية سياسية نظرية بسبب إجازة الإمام الخميني لوزير العمل تطبيق بعض القوانين التي لم يصوت عليها مجلس المحافظة على الدستور, وأثارت امتعاض رئيس الجمهورية خامنئي, فبعث الخميني إليه برسالة يقول فيها: “كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم (ص) مقدمة على جميع الأحكام الفرعية.. ولو كانت صلاحيات الحكومة (أي ولاية الفقيه) محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام (ص) وأن تصبح بلا معنى.. ولا بد أن أوضح أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام, ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. وتستطيع الحكومة (ولاية الفقيه) أن تلغي من طرف واحد الاتفاقات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام.. إن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية“.

وقد عرض الشيخ محسن كدوير في كتابه “نظريات الحكم في الفقه الشيعي” النقاط الأساسية الواردة في رسالة الإمام الخميني في سياق توضيحه لنقطتين تعطيان للولاية المطلقة معناها, وذلك تحت عنوان “عدم الالتزام (أي من الولي الفقيه) بالأحكام الإلهية الفرعية الأولية والثانوية”، ثم ذكر النقطة الثانية “عدم الالتزام بالقوانين البشرية ومن جملتها الدستور“.

وقال: “تتحدد الولاية القائمة على أساس الشرعية الإلهية المباشرة من الشارع المقدس, وليس من الناس (المولى عليهم). وهنا يبرز سؤال في منتهى الأهمية: طالما أن الدستور يستمد شرعيته من إمضاء الولي الفقيه فكيف له أن يقيد ولاية الفقيه المطلقة؟

إن حدود وصلاحية الولي الفقيه ما زالت من أكثر النقاط جدلاً بين الفقهاء الشيعة أنفسهم, وبين السياسيين الإيرانيين جميعاً

واقع الحال أن الولي الفقيه المطلق يستطيع أن يلغي القانون عندما يرى أن ذلك من مصلحة الإسلام والمسلمين, وذلك باعتبار أن القانون الواقعي هو قانون الإسلام الذي ينقضه الفقيه الولي. وبناء عليه فأوامر الولي الفقيه تعتبر في حكم القانون, وهي مقدمة عليه في حالات التعارض معه“.

والذي قاله الشيخ كدوير كاف شاف في تقرير أن الولي الفقيه فوق الدستور، ولو تعارض الولي الفقيه مع الدستور فالدستور هو الذي يتغير.

ولاية الفقيه وآفاق المستقبل

إن حدود وصلاحية الولي الفقيه ما زالت من أكثر النقاط جدلاً بين الفقهاء الشيعة أنفسهم, وبين السياسيين الإيرانيين جميعاً, فالأدلة النقلية والعقلية إذا استطاعت أن تقنع أنصار الولاية بوجوبها, فإن صلاحيات الولي وحدود الولاية بقيت أمراً عصياً على الاتفاق وأثارت جدلاً في المذهب الشيعي عامة وفي البيت الداخلي الإيراني خاصة وأخرجت منه صيغة المحافظين والإصلاحيين.

أبرز المعترضين على ولاية الفقيه

وهذا يعيدنا إلى أن الأدلة وبخاصة النقلية غير كافية للمساواة بين ولاية المعصوم وولاية الفقيه بالطريقة التي ذهب إليها الإمام الخميني في وقتنا المعاصر, وسبق أن أشرنا إلى اعتراض الشيخ مرتضى الأنصاري في “المكاسب” على ولاية الفقيه عند النراقي وأن الروايات لا تشير إلى ذلك، وحدد دلالتها في موضوع الفتيا والقضاء فقط. وعلى نفس المنوال يذهب المرجع الأعلى المعاصر للإمام الخميني أبو القاسم الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى كتاب الاجتهاد والتقليد ويقول: “إن ما استدل به على الولاية المطلقة في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه” (انظر مناقشة للموضوع ص 419 وما بعدها).

وإلى مثله وبنفس السياق ذهب آية الله الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه “الخميني والدولة الإسلامية” الذي كتبه عشية انتصار الثورة الإسلامية في إيران واعترض فيه على موضوعين: الأول هو أن الإمام الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي (ص) والإمام المعصوم (ع) إلى الفقيه”. وقال: “ولكني لا أثبت إلا بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه. والآخر هو أن الإمام الخميني يعتقد بأن الواجبات المالية في الإسلام مقررة للفقراء فقط, وإنما هي تشكل ميزانية الدولة الإسلامية, وأنا أعتقد أن الواجبات المالية في الإسلام موضوعة للفقراء والمساكن“.

وحصر ولاية الفقهاء العدول بالفتوى والقضاء والأمور الحسبية وقال: “إن التفاوت في المنزلة يستدعي التفاوت في الآثار لا محالة ومن هنا كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير حتى على المجتهد العادل, ولا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد, وما ذلك إلا لأن نسبة المجتهد إلى المعصوم تماماً كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل“.

واعتبر أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء, وأقر بمبدأ الانتخاب ما دام فيه مصلحة وأنه لا بأس بالاستفادة من تجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً أو العكس. والى مثل هذا الرأي أيضا ذهب العلامة محمد مهدي شمس الدين, وقال بولاية الأمة على نفسها وبضرورة الشرعية السياسية للنظام في غياب المعصوم, وأن ولاية الفقيه منحصرة في القضاء والفتيا وما ماثلها, وأن قيام الدولة منفصل عن الإمامة ومن يتسلم السلطة ليس مغتصباً لحق الإمام المهدي (كما سبق عند النائيني) ولا تسمى ولاية جور, فولاية الجور تتحقق بادعاء صفة الإمام “بما هي منصب تشريعي” (انظر الفقيه والدولة، حوارات خاصة ص 427 وما بعدها).

ولاية الفقيه في عيون أنصارها

ونريد مما أوردنا الدلالة على أن ولاية الفقيه رغم السنوات التي مرت على قيام دولتها, ما زالت قابلة للتعديل وبكل الاتجاهات فقهاً واعتقاداً, وما زالت قابلة للجدل سياسياً وفكرياً من أنصارها قبل غيرهم، وهذا ما يفسر مبالغة المحافظين في مواجهة الإصلاحيين، فنجد أن القضاء مستنفر لحماية الثورة ولو أدى ذلك إلى سجن وزير داخلية سابق مثل عبد الله نوري أو رجل دين مثل الشيخ محسن كدوير لأسباب تتعلق بالرأي والممارسة السياسية رغم أنها في إطار النظام نفسه.

والمشهد الإيراني وخاصة منذ مجيء خاتمي يتلخص في معركة سياسية وفكرية ضارية يتمسك فيها الإصلاحيون بعنوان الجمهورية، ويسعون إلى تقديم قراءة دستورية لنظرية ولاية الفقيه، يقول خاتمي في اجتماع جماهيري لانتخابات الرئاسة: إذا كان للغرب وجهه السيئ المعروف بالفساد الأخلاقي فإن له وجهه الجيد وهو المشروطة (الدستور).. وإذا كانت الليبرالية ليست مذهبنا، فإن الحريات التي تتضمنها أمر مطلوب، كما أنه لا يجوز الوقوع في شراك الفاشية هروباً من الليبرالية“.

وفي أحد لقاءاته بأعضاء مجلس الخبراء يقول: “الدفاع عن ولاية الفقيه اليوم لا يحصل إلا في إطار الدستور. وفي حال حذف الدستور من دفاعاتنا فإن موضوعة ولاية الفقيه تصبح نظرية فقهية أو في الحد الأقصى نظرية كلامية مقابل النظريات الأخرى التي لا تلزم أحداً بها“.

وهذا ما دفع البعض ليقول بأنه إذا استطاع الإمام الخميني أن يقيم مصالحة بين الدين والدولة، فإن خاتمي سيقيم مصالحة بين الدين ونظام التعددية الغربية وبين الدين والحرية، ويبدو أن المقابلة ستتقدم باتجاه التاريخ لتقول بأنه إذا كان الإمام الخميني امتداداً للنراقي في نظرية ولاية الفقيه فإن خاتمي سيربط جسراً بحركة المشروطة وبدستور 1906 م. (انظر مقدمة كتاب إيران سباق الإصلاح لصادق الحسيني وص 361، 261).

ومن جهة أخرى يتمسك المحافظون بعنوان “الإسلامية” ويتمسكون بولاية الفقيه بصورتها المطلقة خاصة وأن ولاية الفقيه تتسلح بقدسية الدين باعتبار نيابتها عن المنصب الديني للأئمة, لتتجاوز الأصل الاجتهادي الذي بنيت عليه, فضلاً عن توظيفها على المستوى الشعبي لنظرية اللطف, أي وجود الإمام المهدي من وراء الولي الفقيه ليسدده ويصوبه، مما يضفي بهذا الاعتبار على الولي ما يشبه العصمة. وقد كثرت القصص والروايات التي تتحدث عن كرامات للولي الفقيه الإمام الخميني، وفي بعضها إيحاءات بلقائه بالإمام المهدي، وجمع بعضها في كتاب بعنوان “الكرامات الغيبية للإمام الخميني” (طبع دار المحجة البيضاء لبنان). وهذا كله كما غيره سيوظف في حسم مسألة ولاية الفقيه لتنقل من حيز المجتهد فيه فقهياً إلى حيز المنصوص عليه عقائدياً، وربما سيخشى الإصلاحيون من أن يحصل هذا الانتقال قبل أن يقوموا بتهذيب وتعديل ولاية الفقيه وإصلاحها بما يتلاءم مع أهدافهم.

ولاية الفقيه والحكم المدني

ليس من العدل أن نقيم مقارنة بين ولاية الفقيه والديمقراطية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الرأي القائل بتعدد الديمقراطيات أو بكفرها على رأي البعض.

ولعله من المناسب أن نضع ولاية الفقيه في مقابل الحكم المدني باعتبار أن الأخير قدر مشترك بين كافة النظم المتقدمة في التجربة الإنسانية.

أولاً: اعتماد النص في تحديد نوع الحاكم وبالتالي صلاحياته (أي كونه فقيهاً مطلق التصرف) كوريث للنص الذي يحدد عين الإمام المعصوم في الإمامة الإلهية. حيث ينحصر الحكم فعلياً في الفقهاء, ويمنع عمن سواهم, وبهذا تحولهم إلى طبقة مستفيدة من الحكم خاصة وأن الولي الفقيه فوق الدستور, وبهذا المعنى يقترب من الحكم الثيوقراطي الذي يحكم فيه الفقيه باسم الإله, ولكن ضمن دائرة الجائز الواسع القابل للاستثناءات التي لا تحصر وتحت عناوين المصلحة والضرورة التي لا تنتهي.

ثانيا: أن ولاية الفقيه تبرر وجودها بحيازتها على الشرعية الإلهية وبطرحها نفسها ضمن نظرية منجزة كاملة, ولا تطمح لحيازة الشرعية المدنية التي إن سمح لها ستطرح نفسها كمكمل للشرعية الدينية, وهذا سيعود بولاية الفقيه إلى الحيز القابل للاجتهاد والقابل للزيادة والنقصان, وبما يتلاءم مع الشرعية المدنية ضمن الممكن والمتاح في التجربة والنص.

ثالثا: إن تميز ولاية الفقيه بسيطرة المعنى الديني فيها على المعنى السياسي بشكل مطبق, وعدم الفصل بين آليات الاجتهاد الديني عن آليات الفكر السياسي, وبالتالي عدم الفصل بين التاريخي والعقائدي (وليس فصل الدين عن الدولة) سيساهم في ولادة أحزاب عقائدية قد تتحول إلى فرق دينية في أرجاء الدولة والمذهب, فكأنها محاولة لإعادة إنتاج الإمامة بصورة الفقاهة.

وللتوضيح: الخلفاء الثلاثة في مقابل علي.. أحد الطرفين مخطئ, والخطأ بالمعنى الديني يعني كفر وإيمان, نفاق وإخلاص, وكذلك بنفس المعنى المقابلة بين علي ومعاوية, وعائشة ومعاوية.

ويمكن أن تصبح الصورة مع الفقاهة: الفقيه في مقابل المعارض, أحدهما مخطئ بالمعنى الديني, والنتيجة إعادة إنتاج الصيغة الآنفة الذكر.

رابعاً: كون الولي الفقيه فوق الدستور والقانون ومقيد بالإسلام (القابل للتأويل والاجتهاد والاستثناء) باعتباره القانون الواقعي للفقيه, فإن دائرة الممنوع والمسموح على المستوى الدستوري والقانوني لن تخلو من بعض الإبهام, وستجد الأحزاب والصحافة والاتجاهات السياسية والفكرية نفسها تعمل وفق دستور ملغوم ولا يملك صفة المرجعية المنجزة, فإذا أخذته بالاعتبار ولم تخالفه فقد تخالف ما يراه الولي الفقيه محظوراً ولو في ظرف معين, فيجعلها مكبلة خائفة من الإبداع الفكري والسياسي والإداري أن يجر عليها محظوراً.

خامساً: إلغاء الدور السياسي للامة, فهي تتعامل مع فقيه منصوب من قبل الله, فلا يمكنها الاعتراض أو انتقاد سياسته, وستأخذ تصرفاته صبغة مقدسة غير قابلة للمساس.

سادساً: ستترك ولاية الفقيه تساؤلاً يحق له أن يثار على المستوى الديني والإنساني، هل يمكن أن يخضع إنسان للدستور بينما يبقى آخر فوقه؟ وهل هناك قانون خاص يخضع له رجال الدين وآخر يخضع له بقية الناس؟

المصدر