أ.د. فرست مرعي
عقائد الآريّين قبل ظهور زرادشت:
إنّ عقائد الطوائف الآريّة القديمة كانت مبنيّة على نوعٍ من العبادة الثنويّة، مشركةً معها البعض من مظاهر الخلق، كالماء والتراب والنار والرعد والبرق والصواعق، وبعض الحيوانات الضارية الكاسرة. وعبادة هذه المظاهر كان للظنّ بجذب عطفها وخيرها، وعبادة مظاهر أخرى ضارة، كي تكون في مأمنٍ من شرّها، وكانت هذه المجموعات الآريّة تزعم أنّ لهذه العوامل روحاً وإدراكاً وشعوراً وإحساساً.
وعلى أيّة حال، فهذه المظاهر التي كانت تُعبد بظنّ الانتفاع بها في هذا العهد، وكانت على نوعين: عوامل نافعة، وعوامل ضارة ظاهراً؛ وبذلك يظهر أنّها كانت منذ البدء تقول بنوعٍ من الثنويّة في الآلهة، وتعبد إلهين.
ظهور زرادشت:
زرادشت يُذكر بأنّه المؤسس الحقيقي للدين الإيراني القديم؛ فشخصيّته وتعاليمه قد صبغت هذا الدين بصبغة قويّة ميّزته عن أيّ دينٍ آري آخر، لكنّ بعض العلماء أظهر شكّاً في وجود هذا الرجل، وذكروا أنّ كلّ ما ذكر عنه يدخل تحت باب الخرافات والأساطير. والغريب في أخبار اليونان أنه لا مؤرخهم الكبير هيرودوت(484- 425ق.م) صاحب المعلومات الجيدة عرف اسم زرادشت، لم يتطرق إليه في بحثه الكبير عن الفرس الاخمينيين، حيث خصص صفحات كثيرة للحديث عن الملك الفارسي كورش(559-529ق.م) باعطاء وصف تاريخي لمملكة ميديا وحكم استاكيس الميدي(= جد كورش من جهة الام) والذي أطاح به كورش فيما بعد. ثم يعرض وصفاً لأعراق الفرس وأجناسهم، ويعقبه بوصف للشعوب التي كانت تسكن شرق بلاد اليونان من: الأيونيين، والدوريين، والأيوليين باعتبارها المناطق المجاورة للإمبراطورية الاخمينية الفارسية آنذاك بعد هزيمة كرويسوس عام445ق.م وسقوط مملكته على يد الفرس. ويخصص الكتاب الثاني للملك الاخميني (قمبيز) وفتحه لمصر، وكذلك يفصل في الكتب الاخرى عن الملكين دارا الاول(521-486ق.م) وابنه أحشويرش الاول– أكزرسيس( 648- 465ق.م) والحروب التي خاضوها ضد اليونان واحتلالهم لأجزاء من القارة الاوروبية ثم خسارتهم لها بعد معارك شديدة بينهم وبين اليونانيين وحلفائهم. ينظر: هيرودوت، تاريخ هيرودوت، ترجمة: عبدالإله الملاح، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الثانية،
ص29 وما بعدها، ص132 وما بعدها، ص217 وما بعدها، ص293 وما بعدها،ص373 وما بعدها… الخ.
ولم يتطرق المؤرخ اليوناني الآخر أكسينوفون(430ق.م – 354ق.م) هو الآخر الى زرادشت، ولا وجود لاسم زرادشت إلا عند مؤلفين هم في الحقيقة قدماء، ولكن ليس لدينا عن مؤلفاتهم سوى تحليلات ومناقشات حديثة.
يقول المستشرق الفرنسي كليمان هوارت (8541-1926م) بهذا الخصوص:” ليست سيرة صاحب شريعة إيران سوى نسيج قصص حاول العلماء عبثاً استخراج أساس تاريخي منه، حتى أن اسمه صعب التفسير لم يمكن إيضاحه بصورة مرضية. ورد اسمه في الآبستا ( زراثشترا) مع لقب (اسبيتاما) ومعناها الابيض. أما اشترا فهو الجمل، ولكن كل الصعوبة هي في (زراث) القسم الاول من اسم هذا النبي وخاصةً في وجود حرف الثاء اللثوية المهموسة التي لولاها لاتجه الفكر الى (زرا) الذهب ولأدى الاسم بكامله الى معنى (مالك الجمال الذهب)، ولكن هذا بعيد الاحتمال”. ينظر: كتاب الفنديداد، نقله من الفرنسية: الدكتور داود الجلبي، قدم له: جرجيس فتح الله، اربيل، دار ئاراس، الطلعة الثانية، 2001م، ص، مقدمة المترجم27.
وبناءً على ذلك فإنه من الصعوبة بمكان تعيين الزمان الذي عاش فيه زرادشت، لأن كتبة اليونان واللاتين يقدمون هذا الزمان الى ما قبل التاريخ الميلادي بستة آلاف سنة، غير أنهم إقتبسوا معلوماتهم هذه من بيئة كانت قد صيغت فيها هذه القصة التي يستحيل تصديقها. لكن نظراً لرواية البارسيين الهنود التي يدعمها المتن البهلوي لكتابهم المسمى (بندهشن) يكون زرادشت قد عاش بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد، وهذا التاريخ هو المقبول عند أكثر العلماء في الوقت الحاضر. فإن كتاب الاناشيد المعروف باسم ( كاثات) ذكر اسم زرادشت، وهذه الاناشيد نظراً الى قدم اللغة التي كتبت بها ترتقي على أقل تقدير الى زمان الملوك الاخمينيين الاولين (= الكيانيون). وقد أمعن المستشرق البريطاني إدوارد ويليام ويست(1824 -1905م) في التدقيق وحدد هذا التاريخ بين 660 و583 قبل الميلاد.
وأيَد هذا الرأي كلٌّ من المستشرق اليهودي الفرنسي جيمس دارمشتاترDarmesteter (1849-1894م)، والمستشرق الأمريكي وليامز جاكسون Jachson (1862- 1937م) وخلاصة هذا الرأي أنّ أمر (زرادشت) قد ذاع وازدهر في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، أي في عصر الدولة الميديّة، قبل ظهور الدولة الأخمينيّة الفارسيّة، وإنّ توقيت ولادته ووفاته يختلف من مرجعٍ إلى آخر،” ويعتقد أن ظهور هذا المبشر بالديانة الجديدة كان في أواخر القرن السابع أو في بداية القرن السادس قبل الميلاد”. طه باقر وزملاؤه، تاريخ ايران القديم، بغداد، رئاسة جامعة بغداد، 1980، ص60.
ومن الجدير بالذكر أن كتابات الملك الأخميني دارا الاول(521- 486ق.م) قد أوضحت أنه كان يقدس الإله ( آهورامزدا)، في الوقت الذي كانت الكتابات القديمة تشير الى أن الايرانيين كانوا يعبدون الإله (ميثرا) إله العدل والمتمثل بالشمس، ويعبدون أيضاً إلهة المياه والخصب ( أناهيتا)، ويذكر أحد الباحثين بأن الزرادشتية كانت الديانة الرسمية للاخمينيين:” ولهذا السبب يمكننا أن نقول بأن دارا قد أدخل آثناء حكمه الديانة الزرادشتية وجعلها دين الدولة الرسمي، إذ أن كتاباته المنقوشة في جبل بهستون ونقش رستم قد أكدت أن انتصاراته على أعدائه كانت بعون الإله آهورامزدا”. طه باقر، تاريخ ايران القديم، المرجع السابق، ص60.
أمّا أتباع (زرادشت)، الذين يُطلق عليهم في الهند اسم (البارسيين)، فيرون أنّ ولادة (زرادشت) كانت في اليوم التاسع من آذار، أو شهر (مرداد ماه)، (خورداد هورتات) في (الآفستا)، وهو الشهر الخامس في التقويم الزرادشتي من سنة 628ق.م الذي يوافق اليوم الثلاثين من شهر أيار (مايو) حسب التقويم الميلادي، وإن كانت مصادر أخرى ذكرت ولادته في سنة 589ق.م.
مسقط رأس زرادشت:
لم يخلتف المؤرخون، المقرّون بوجود (زرادشت)، في مكان مولده، كما اختلفوا في زمانه؛ فقد ذكر (الطبري)، وعنه نقل (ابن الأثير) رواية أنّ (زرادشت) من أهل الكتاب ( اليهود)، ومن (فلسطين)، كان يخدم بعض تلامذة النبـي (إرميا). وهناك رأي آخر يقول أنّ مسقط رأس (زرادشت) ميديا وخاصة ميديا الاتروباتية المسمى الآن أذربيجان الأصل، ولد بمقاطعة أتروباتينAtropatene (= أذربيجان الحاليّة – الغربيّة) في إيران، إحدى مقاطعات ميديا، على مقربة من (بحيرة أورمية Urmie)، التي تسميها بعض المصادر بـ (بحيرة المجوس).
لكنّ الأبحاث الحديثة أثبتت بطلان هذه الروايات، وغيرها من أقاويل أهل الكتاب. حيث يقول أحد العلماء البريطانيين روبرت تشارلس زيهنير (1913 -1974م) إستاذ الديانات الشرقية في جامعة أكسفورد في أحدث بحثٍ له:” ويبدو أنه من المتفق عليه عموماً أيضاً أن مجال عمل النبي، الذي أعلنت فيه رسالته، كان خواسيميا القديمة، وهي منطقة ربما تشمل على ما هو الآن خراسان الفارسية وأفغانستان الغربية والجمهورية التركمانية في الاتحاد السوفييتي المنهار، غير أن هناك دليل يظهر أن زرادشت لم يكن من أهل هذه المناطق، حيث هو نفسه كان يشتكي الى إلهه بأنه يلاقي الاضطاد في موطنه، ويسأله عن المنطقة الي سيفر إليها، ووجد في النهاية ملاذاً عند الملك وشتاسب الذي كان ، حسب زعم هننغ، الزعيم الأخير لاتحاد خوراسيميا الذي أطاح به قورش أخيراً، وإن المكان الوحيد في الآفستا، كتاب الزرادشتيين المقدس، المرفق مع زرادشت هو راغا ( Ragha)، ( راغس Rhages القديمة هي الري الحديثة، التي هي الآن الضاحية الجنوبية من طهران) التي توصف بأنه زرادشتية، ولذلك من المحتمل أن زرادشت كان أحد مواليد الري في ميديا، وأنه فرَّ من هناك الى خوراسيميا حيث
وجد في النهاية نصيراً له في فيشتاسب (= ويستاشب)، ومع ذلك، فسوف يبدو بأنه لم يجد راحة حتى في بلاط هذا الملك، حيث توجد إشارات ثابتة الى وجود عمل عدواني متواصل ضده من جانب أعدائه، حتى بعدما ضُمنت له الحماية الملكية”. ر. س. زيهنير، المجوسية الزرادشتية الفجر- الغروب، نقله الى العربية وقدم له: سهيل زكار، دمشق، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2005م، ص32 – 33.
غير أن بعض الباحثين البارسيين (= الزرادشتيين) يعدون منطقة شرق إيران مسقط رأسه، فيذكر (مهرداد مهرين) أن (زرادشت) ولد في مكان يقع شرق إيران، بالقرب من (ونجهرتي دارتيا) في منطقة بلخ (= مقاطعة باكتريا في المصادر اليونانية)، وإنه ذهب في سن الثلاثين إلى (جبل سَبَلان)، الواقع غرب بحر قزوين، والمطلّ على بحيرة أورمية من الشمال الغربي، وهناك عاش في عزلة حتى حصل في النهاية على الجوهر الذي يبحث عنه. ويؤيده كذلك الباحث الايراني (ابو القاسم امامي) في تحقيقه لكتاب المؤرخ المشهور(أبو علي مسكويه المتوفى سنة 421هـ، بالقول:”… حول مكان الولادة، قيل: الري، وفي الاغلب يقال: الشمال الشرقي لايران…”. الجزء الاول، ص86 – 87.