حقوق المجني عليه في مواجهة النيابة العامة عند تحريكها الدعوى الجزائية

53

حقوق المجني عليه في مواجهة النيابة العامة عند تحريكها الدعوى الجزائية
د. ماجد احمد الزاملي
إن السياسة العقابية المعاصرة لم تعد تنظر للدعوى الجنائية على أنها الأسـلوب القانوني الأمثل لإستيفاء حق الدولة في العقاب في أغلب الجرائم، لا سيما التـي يتعلق الحق المعتدى عليه فيها بالمجني عليه فقد بدأ التركيز من جانـب الفقـه والمؤتمرات الدولية والندوات العلمية، على أن تكون العلاقة بين المجني عليـه والجاني بإرضاء الأخير للأول عن طريق الاعتذار له أو تعويضه بقصد إنهـاء الخصومة الجنائية في الجرائم التي لا تنطوي على خطورة اجتماعية ويَغلب فيها الجانب الشخصي للمعتدى عليه وإيجاد بدائل للدعوى الجنائية.إنّ نظرية الدعوى الجنائية تُمثل مكانا أساسيا في التشريعات الجنائية المختلفة، فقد سادت فكرة عمومية الدعوى الجنائية وعدم قابليتها للتنازل، وتهدف الـدول من وراء ذلك إلى تحقيق الصالح العام، وقد اهتمت الدول اهتماماً بالغـاً بـأمر المتهم لكنها أغفلت أمر المجني عليه بعدما كانت تهتم به اهتماماً كبيـراً فـي العصور السابقة إذ كانت تعتبره صاحب الحق في معاقبة المتهم أو فـي العفـو مقابل التعويض أو بدونه، إلاً أنه منذ النصف الثاني من القرن العشرين طالـب المفكرون بكفالة حق المجني عليه خاصةً أنّ توصيات المؤتمرات الدولية كثيـراً ما تُساير الإتجاه المُطالب في التشريعات إلى الإهتمام بالمجني عليه والتوسع في القيد الوارد على حرية النيابة العامة لوقف تحريك الدعوى إلاّ بناءً على شكوى المجني عليه في بعض الجرائم التي تكون فيها مصلحة المجنـي عليـه أولـى وأجدر بالرعاية من توقيع العقوبة على الجاني.
النيابة العامة هي ممثلة المجتمع قانوناً ومن ثم كان التكييف الصحيح بمركز النيابة العامة في الدعوى الجنائية بأنها النائب القانوني عن المدعي وليس المدعي نفسه أما المدعى عليه في الدعوى الجنائية فهو المتهم ،فالنيابة العامة هيئة قضائية إذ يشاركون في جلسات المحاكم بحيث يبطل تشكيل المحكمة إذا لم تكن النيابة العامة ممثلة بالجلسة ولا يغير من هذه الحقيقة توزيع أعباء القضاء بين سلطة مباشرة الدعوى من ناحية وسلطة الحكم من ناحية أخرى كما لا يغير من ذلك الواقع كون أعضاء النيابة العامة في بعض القوانين المقارنة جعلت تبعية النيابة العامة لوزير العدل الذي له حق الإشراف عليهم والتأكد من أدائهم في الأعمال الموكلة إليهم.
وقانون أصول المحاكمات الجزائية قد حَدَّد سلطة التحقيق في الدعوى الجزائية في مرحلة التحقيق الإبتدائي بقضاة التحقيق ومنحهم السلطات التي تُمكِّنهم من إتخاذ الإجراءات اللازمة للوصول إلى الحقيقة، وإتخاذ القرارات المناسبة وضماناً لسلامة التحقيق وصولاً إلى العدالة، فبعد أن يقوم قاضي التحقيق بالإجراءات التي يراها ضرورية لكشف حقيقة الجريمة المرتكبة وبعد أن يُقرر إنَّه أكمل تحقيقه يصدر قراراً أما بغلق الدعوى الجزائية مؤقتاً أو نهائياً على ضوء السبب الذي إستند إليه الغلق أو بإحالة الدعوى إلى محكمة الموضوع إذا كانت الأدلة كافية للإحالة. وعند وقوع جريمة يجب أن تراعى بشكل دقيق الإجراءات المنصوص عليها في قانون أُصول المحاكمات الجزائية لأنَّ مخالفتها سيؤدي إلى بطلان الإجراءات المُتَّخذَة. وبالتالي بطلان الآثار القانونية المترتبة على تلك الإجراءات. لهذا يجب ان يكو ن القائم بالتحقيق على علم ودراية كاملة بالإجراءات المنصوص عليها في القانون ، نظراً لأهميتها وحساسيتها وهذه الإجراءات هي التي تُنظِم الدعوى الجزائية و كيفية مباشرتها منذ وقت وقوع الجريمة حتى الحكم فيها وانتهاءَ بتنفيذها في احدى الموسسات الاصلاحية المعدة لهذا الغرض. إنّ تنظيم الإجراءات الجزائية بشكل عام والتحقيقية بشكل خاص هو نوع من التنسيق بين مصلحة المجتمع في القصاص من مرتكبي الجرائم، وبين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساس في الحرية والطمأنينة، وهذا يعني إنَّه إذا كانت مصلحة المجتمع تقتضي معاقبة مرتكب الجريمة وشركائه فإنها في الوقت نفسه تقتضي الحفاظ على حريات الناس وحقوقهم، وكذلك تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه، وعلى وفق هذا فإن المساس بهذه الحريات والحقوق من دون مبرر كافٍ يُشكل اعتداءً على هذه الحقوق. ولمرحلة التحقيق الابتدائي تأثيراً واضحاً على ما سَيليها من مراحل الدعوى الجزائية، وكلما اتسمت هذه المرحلة (مرحلة التحقيق الابتدائي) بالسرعة والصحة والنزاهة والإلتزام بتطبيق الإجراءات الجزائية وكانت الإجراءات مبنية على أسباب ودلائل معقولة وكافية، كانت أقرب من حقيقة الجُرم المرتكب وصولاً إلى مرحلة إصدار حكم عادل يفصل في موضوع الدعوى. إنَّ مرحلة التحقيق الابتدائي أول مراحل الدعوى الجزائية وبناءً على ذلك تَبرز أهميتها في تمحيص الأدلة وتدقيقها وجمع كافة العناصر الضرورية اللازمة لإجراء المحاكمة مستقبلاً، وهذه الأهمية تبدو بوضوح في حالات صدور أمر غلق الدعوى أو صدور أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى إذ إنَّ التحقيق في هذه الحالة يحمي المتهم من التعرض لمحاكمة علنية قبل أن تتوافر أدلة الاتهام . وتتمثل أهمية التحقيق الابتدائي أيضاً في أنَّه لم يعد يقتصر هدَفهُ على جمع الأدلة المتعلقة بالواقعة المرتكبة لإسناد الإتهام لمرتكبها بل أصبحت شخصية المتهم محل إهتمام في التحقيق والدراسة في ضوء تقدم العلوم الجنائية لبيان الأسباب الكامنة وراء ارتكاب الشخص الجريمة(1). ومن هذا أصبح التحقيق الابتدائي يهدف إلى تكوين فكرة كاملة عن شخصية المتهم بالإضافة إلى العناصر المتعلقة بالجريمة.
ويرتبط تاريخ حق الشكوى من الجريمة بتاريخ تلك الأخيرة ذاتها، وإذا كان المقرر أن الجريمة قديمة قدم الإنسان، فقد وجب أن يرتد تاريخ الشكوى إلى اليوم الذي بدأت فيه الحياة الإنسانية على وجه الأرض وذلك عن طريق تتبع الاتهام. وإذا كان المشرع قد قدَّر أن المصلحة العامة تستوجب بالنسبة لبعض الجـرائم تعليق سلطة النيابة العامة في تقدير مدى ملائمة رفع الدعوى الجنائية على شـكوى المجني عليه باعتباره الأقدر – نظراً لطبيعة الجريمة أو شخص المتهم -بارتكابهـا على تقدير الضرر الذي سيلحقه من رفع الدعوى كان منطقياً مَنحَهُ الحق في التنـازل عن شكواه التي قدمها إذا رأى أن مصلحته كمجني عليه قد تتعـارض والـسير فـي إجراءات الدعوى.
كان للأصل التاريخي للنيابة العامة في فرنسا ــ باعتبارها مجرد أداة لتمثيل الملك وحماية مصالحه ـــ تأثيراً كبيراً في موقف المشرع والفقه الفرنسيين من تحديد وضع النيابة العامة القانوني ، وفي علاقتها بالسلطة التنفيذية . فذهب البعض إلى أن النيابة العامة جزءاً من السلطة التنفيذية وتابعة لها ، وأن أعضاءها ليسوا سوى وكلاء لهذه السلطة لدى المحاكم ، وتبريرا لهذا الرأي استند أنصاره إلى ما نصت عليه المادة الثامنة من المرسوم 16ــ24 الصادر في أغسطس سنة 1790 على أن ‘أعضاء النيابة العامة الذين كانوا يسمون رجال الملك (صاحب السيادة ) في الماضي هم حاليا وكلاء السلطة التنفيذية لدى المحاكم .هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن رفع الدعوى الجنائية على الجرائم يعتبر إحدى وظائف السلطة التنفيذية ، فهذه الأخيرة باعتبارها ممثلة للشعب في القيام على شؤونه ورعاية مصالحه وتطبيق القوانين وضمان حسن تنفيذها وعدم الخروج عليها ، أُعطيت الحق في الدعوى الجنائية من أجل توقيع العقوبة على كل مخالف للقانون ، ضماناً للمجتمع وصيانة لحقوق الأفراد ، وتُعد مباشرة هذا الحق من مستلزمات عمل السلطة التنفيذية والسلاح الذي أعطاه المشرع إياها لتستعين به في أداء مهمتها.وعلى هذا الأساس فإن الحكومة هي التي تقوم بتعيين أعضاء النيابة العامة ويكون من سلطتها أن توجه إليهم الأوامر لتنفيذها وبناءا على ذلك فهي مسؤولة عن أعمال النيابة العامة وهذه المسؤولية تتداخل مع المسؤولية الوزارية أمام البرلمان التي قد تتعرض لها الحكومة فيما يتعلق بإقرار النظام وتبرير رفع الدعوى الجنائية عما يُرتكب من جرائم أما حرية النيابة العامة في إبداء رأيها أمام المحكمة فيرجع إلى ما جرت عليه التقاليد وما تتمتع به النيابة العامة من مكانة واحترام.
يدل القانون الجنائي إلى أن اصطلاحي قانون العقوبات والقانون الجنائي أياً منهما يصلح للتعبير عن الجريمة والعقوبة كفكرتين متلازمتين، فلا جريمة بلا عقوبة ولا عقوبة بلا جريمة، وإذا استخدم اصطلاح القانون الجنائي على اساس أن الجنايات أخطر أنواع الجرائم وأهمها فمن المنطق القول أن تعريف الكل يشمل جزأه الأقل. فاستخدام هذين المصطلحين كمترادفين ليس لأنهما كذلك في نظر الفقهاء، وإنما من باب إقرار اللغة القانونية على الإستخدام الدارج للمصطلحات القانونية. وهناك جانب آخر من الفقه(2) يذهب إلى أن قانون العقوبات مرادف لمصطلح القانون الجزائي ومصطلح القانون الجنائي والفروق ما بين هذه المصطلحات لا تعني اختلافاً في مضامين كل منهما بقدر ما تمثل ممارسة فقهية لفن التأصيل لا أكثر ,أي إنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. فهذه التسميات في نظرهم على الرغم من تعددها لكنها في النهاية تلتقي نحو هدف واحد ونتيجة واحدة مشتركة تتمثل في التجريم والعقاب من منطلق مبدأ الشرعية الذي من مقتضاه أن لا جريمة بلا عقوبة ولا عقوبة بلا جريمة,فعندهم مصطلح قانون العقوبات أو القانون الجنائي أو القانون الجزائي أو المسطرة الجنائية هي اصطلاحات قانونية وفقهية قاصرة على القواعد الجنائية الموضوعية. إن القواعد القانونية العامة المجردة تعد أساس النظام القانوني كله، في حين أن المراكز القانونية الخاصة تعد تطبيقات للقواعد القانونية، وبالتالي لا يمكن الإعتراف بها إلاّ على أساس موافقتها للقواعد القانونية(3) ، وبسبب اعتماد المراكز القانونية في صحتها على موافقتها للقواعد القانونية فأنه يترتب على ذلك ضرورة افتراض وجود القاعدة القانونية قبل نشأة المركز القانوني. تعتبر القاعدة القانونية ملزمة على الأشخاص فهم المعنيين بمضمونها وتقسم إلى قواعد آمرة ومُكملة وكل لها قوتها الإلزامية، ولقد جعل المشرع هذه القواعد تنظم حياة الأفراد وسلوكهم على الإقليم التابع لهم.ولكي تكون القاعدة القانونية ذات فعالية وتأثير على المنظومة القانونية، نظم المشرع كيفية تطبيق هذه القواعد القانونية من حيث الأشخاص ومن حيث الزمان والمكان، وهذا لتجنب تنازع الاختصاص الإيجابي والسلبي ويكون وجوده إما حالة إنكار العدالة أو تصارع في المجال، فبالنسبة لنطاق تطبيق القانون في الزمان فلقد وضح المشرع أن القوانين الجديدة تلغي القوانين القديمة سواءً كان الإلغاء صريحاً أو ضمنياً، وكذلك للقاعدة القانونية أثر فوري يُطبَّق على الأشخاص الموجودين في مجال الدولة .إن تطبيق القاعدة القانونية من حيث الأشخاص تتصل بنفاذ القانون وبعمومية القاعدة القانونية، ويكون هذا على أساس مبدأ عدم جواز الإعتذار بجهل القانون ويكون نافذاً في حقهم بعد نشره في الجريدة ، حيث تسري القاعدة القانونية أيا كان مصدرها على جميع المخاطبين أو الجاهلين بها، إذا لا عذر لأحد بجهل القانون وهذا رغم بعض الاستثناءات التي ترد على المبدأ نذكر منها القوة القاهرة، الغلط في القانون، دفع المسؤولية الجنائية بسبب الجهل بقوانين غير جنائية وجهل الأجنبي بأحكام قانون العقوبات للدول التي نزل بها منذ فترة وجيزة.
————————————
د. عبد الستار الجميلي، التحقيق الجنائي ، مطبعة دار السلام، ص15,بغداد،1983. -1
2-د. سليمان عبد المنعم، د. عوض محمد عوض، النظرية العامة للقانون الجزائي اللبناني (نظرية الجريمة والمجرم)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص5
3-د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، (القسم العام) ، دار النهضة العربية، القاهرة 1985، ص3

المصدر