ايقاعات الغرب لا ترقّص ثعابين الشرق الأوسط!

547

بقلم: قرطبة الظاهر

24.10.2020

من المعروف في المنهاج الفكري للعلوم السياسية إن الإنسان الذي يعيش أوضاعَ مجتمعه ومحيطه ويبحث عن أسباب الفشل والفساد والجهل الذي داهم مجتمعه لعصور طويلة قد يكون هو الشخص الأمثل لإدارة دولته. فكما اكد أرسطو على هذا المبدأ: “الانسان السياسي هو انسان اجتماعي”. إلّا أنَّ العراق لم تحكمه “الشخصية الفاضلة” منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 حتى يومنا هذا، كما رسمها أرسطو في معتقده الفلسفي. ولم يحكم العراق “الأمير، il principe” بما تقتضيه الفُرص السياسية أنْ يكونَ او يتحلى بالأوصاف التي سطرها السيد نيكولو مكيافيلي في كتابه. لكن ما عاصره العراق من حكم وحكام ومنذ الازل، وانا أعود إلى عصر تكوين الممالك والامارات خلال حكم سومر واكد وبابل واشور، لم يمكنه من الاستقرار الدائم والسلام الضامن. عوامل كثيرة وصراعات أسود الحكم والمتغيرات المناخية والهزات الأرضية والتهديدات المتكررة على بلاد ما بين النهرين اثرت على مجتمعاتها بشكل سلبي جدا، لا بل جعلت الخوف من القادم يسري في عروق البشر، ناهيك عن الاسى والحزن الدفين في نفوس سكان ارض من المفترض ان يكونوا من أسعد البشر في العالم. تباكى اهل سومر عند الالهة خوفا من الطوفان فاصبح العويل والنحيب موروث ثقافي انتقل إلى الاكديين ثم البابليين ثم الاشوريين ثم إلى كل العراقيين اليوم. اطفأ المغول شموع العلم وكتب الفقه والفلسفة ودمروا ميراث الأجيال القادمة ومحوا كل ما كان يدل على التنوير والحكمة عند وضعهم نهاية دموية للعصر العباسي باجتياح صادم ورهيب ومفاجئ لبغداد في العاشر من فبراير/ شباط عام 1258. حقبة مهدت الطريق لعصور السلطة العثمانية يسودها الظلام والجهل والتخلف الفكري واحتكار ونهب ثروات البلاد بكل المقاييس والأوصاف الاجرامية. وحتى بعد سبعة قرون من اجتياح المغول لبغداد وتأسيس جمهورية العراق لم يفلح أي حاكم عسكري في انتشال دولته نحو السلام المنشود والضامن والدائم.

ماذا يحدث في الشرق الأوسط وما هو مصير العراق؟

1. العراق

وضع العراق الجغرافي يجعل منه لقمة سائغة لجيرانه في كل حقبة ضعيفة من إدارة البلاد. كما ان التركيبة الاجتماعية للمجتمع العراقي وتنوعها الحضاري والفكري والديني والعرقي يجعل القرار السياسي دائما متذبذب او يخدم فئة من الشعب دون غيرها. المجتمعات غير المتجانسة كالمجتمع العراقي من الصعب جدا ان يقودها حاكم اوحد لان هذا الحاكم سينحاز للعشيرة التي ينتمي اليها او للعرق او للقومية او للطائفة التي تسند وتحمي حكمه. لذا التجأ الساسة الشيعة إلى من هو على مذهبهم وهي ايران لتعزيز نفوذهم وتعظيم ثروتهم الخاصة والهيمنة على بقية القوميات والأقليات والمذاهب. انتهزت إيران الفرصة لتسريب عناصرها ومواليها وثورتها الإسلامية لاحتلال غير معلن ومبطن للعراق. فلو كان هذا الاحتلال معلناً لأُجبرت إيران على اعمار وبناء العراق وهذا لم يكن ضمن مخططها قط. كما ان تركيا الطامعة أيضا لاعادة الحكم العثماني الجائر لم تكتف بالصمت والتفرج. فتغلغلت هي الأخرى في عمق الأراضي العراقية عبر حلفاء لها تحت ذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني الPKK لكنها تروم إبعاد الخطر الإيراني المتمثل بالمليشيات الولائية عن حدودها. زرعت ايران جذورها في عمق السياسة العراقية كما فعل البرامكة في الدولة العباسية. فأصبحت الطرف الثالث في كل نزاع ومؤامرة، ممهدة الطريق لإعلان العراق “امتدادا” للإمبراطورية الساسانية في كل محفل ومجمع ومناسبة. لم تكتف إيران بهذا القدر من السياسة فحسب بل إنها قطعت شوطا كبيرا في تأسيس ما يسمى بال “دولة العميقة” التي تغلغلت في كيان الدولة العراقية حتى اصبح وجودها يشكل خطرا كبيرا جدا على شعب الدولة العراقية وعلى المنظمات الدولية المندوبيات الرسمية. فلم يكُ هناك أية فُرصة أمام الشعب سوى الثورة على نظام الولائيين وسلطة الاسلمة السياسية الفاسدة.

2. الغرب الأوروبي

في خضم سباق التنافس على تحديد بوصلة الطبيعة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة الامريكية يتأمل الاتحاد الأوروبي بعد مناهضة سياسة ترامب لمحاولاته فرض املاءات اقتصادية وتجارية على السوق الأوروبية حسب ما تمليه مصلحة دولته من حماية كلية للمنتوج الأمريكي وقدرته على ترويجه في أسواق بديلة أخرى، بالإضافة إلى تمكنه من الغاء الاتفاقية النووية الإيرانية من طرف واحد، والتي كان الأوروبيون يرونها الحل الأمثل لتحجيم تخصيب اليورانيوم بنسب متفق عليها للحد من تهديد منطقة الشرق الأوسط بالأسلحة النووية الإيرانية، يتأمل الأوروبيون بفوز خصم ترامب، الديمقراطي جو بايدن، الذي يروم إعادة تطبيع الأوضاع في الشرق الأوسط لعام 2003 بتقسيم العراق طائفيا ومناطقيا وإبقاء الاحتلال الإيراني في العراق واسناده على حساب العراقيين وإعادة الاتفاقية النووية الإيرانية إرضاء للأوروبيين والعودة إلى مصير القدس والقضية الفلسطينية. كما يتطلع الأوروبيون إلى اقتحام السوق العراقي لترويج بضائعهم عبر اتفاق مع ايران بعيدا عن طموح الجمهوريين. زيارة ماكرون إلى بغداد مؤخرا حملت دلالات كثيرة على هذا التصرف السياسي والطموح الأوروبي لتحجيم دور الجمهوريين في الشرق الأوسط والسعي لإجهاض مشروعهم الداعم للسلام مع اسرائيل. هذا التصرف لن يرضي حلفاء الجمهوريين في الشرق الأوسط ولن يرضي إسرائيل وقد يؤجج صراعاً مسلحاً وحرباً لا مخرج منها في المنطقة، وسيكون العراق ضحية الامرين. عودة داعش ستكون وشيكة إلى الواجهة ونفوذ المليشيات الموالية لإيران في العراق سيزداد بعد سيطرتها على القرار السياسي في حال انتصار بايدن انتخابيا الشهر القادم.

العراقيون سيواجهون دوامة من العنف والانفلات والاضطرابات السياسية لا مثيل لها مما سيؤثر سلبا على نفوس الشباب العراقي بالدرجة الاولى واملهم بتحسين أوضاعهم المعيشية ونيل حقوقهم بعد ثورة تشرين المجيدة. الهجرة طلبا للجوء إلى أوروبا ستزداد بشكل مخيف. عند ذلك الحين ستتيقن أوروبا ما اقترفته من سياسات غير حكيمة إزاء العراق.

3. الغرب الأمريكي ـ الإسرائيلي

يسعى الجمهوريون واللوبي الصهيوني في واشنطن إلى ضم معترك المصالح في الشرق الاوسط إلى القطب الشرقي (ايران ـ الصين ـ روسيا ـ تركيا) خلال سباق سياسي ملحوظ إلى تمرير المشروع العسكري ـ الأمني ضمن مخطط الشرق الأوسط الكبير للسيطرة على كل قرار سياسي واقتصادي خليجي ـ عربي وغير عربي وإدارة الازمات والحروب بقيادة إسرائيل بعد عقد الصفقات اللازمة من حصص النفط لتنشيط القوة الاقتصادية الإسرائيلية بالدرجة الأولى وتعظيم نفوذها العسكري لتكون قوة جبارة يهابها القاصي والداني ضمن تحالف عابر للشرق الأوسط يصل مداه إلى حوض البحر الأبيض المتوسط شمالا وغربا لتحجيم الدور التركي والروسي وإلى افريقيا جنوبا (مشروع السلام مع السودان يعد بوابة تأمين الجبهة الجنوبية نحو افريقيا). فأن القارة الافريقية تعد بؤرة من بؤر ايران وحزب الله حيث تجارة الماس والذهب والزئبق والعملات المزورة. أما شرقا فأن العراق سيكون المحطة ما قبل الأخيرة لحماية مصالح الشرق الأوسط الكبير والإدارة “الابراهيمية”. ربما سيكون هذا الامر هو انهاء تام لما عانى منه العراقيون لعقود من الخوف والالم الذي لحق بهم خلال الغزو المغولي لتاريخهم وتراثهم وميراثهم. كما انه سيضع حجر أساس لحقبة جديدة يسودها الامن والأمان والرخاء والتوافق السياسي بجهود الإدارة الابراهيمية ـ العراقية الجديدة. ما يلزم العراق هو اقناع الشعب بتحقيق سلام حقيقي مع بني إبراهيم عبر تثقيف المجتمع وبناء جسور حوار الأديان وتعارف الحضارات. ذلكم النبي السومري ـ العراقي الذي كتب الله له ان يكون أبا لبني إسرائيل وللعرب المسلمين قاطبة ربما سيوحدنا على أرض سومر من جديد. وهذا السلام لن يتحقق إلا بحوار صريح وجريء مع الإدارة الابراهيمية لطي صفحة جديدة من التعاون المشترك والتبادل العلمي والثقافي والتكنولوجي.

بالطبع لن يعجب ايران هذا التحرك السريع لحلف إبراهيم وسياسات التطبيع. إذ تحرك النظام الإيراني بقيادة روحاني لتحصين جمهوريتهم بعد فرض عقوبات أمريكية مؤلمة ومدمرة للاقتصاد الإيراني وبرنامج تسليحه عبر عقد اتفاق مع الصين لمدة 50 سنة بعد أن عجزت ايران عن فرض ذات الاتفاق على العراق إبان حكومة عادل عبد المهدي لتحصينه من أي ضربة عسكرية محتملة تأتيهم من إسرائيل او أمريكا. فأصبحت ايران رهينة صينية اقتصاديا. مما يعني بان الصين قد تحتل ايران و تستعمرها في حال عجز النظام عن تسديد دفعاته للصين، كما يعني أيضا بان الصين قد تعلن الحرب على أي دولة غربية توجه ضربات عسكرية لإيران. فما كان لأمريكا أي خيار سوى ضرب الطموح الإيراني داخل العراق وسوريا مكتفية بدعم الحركات الإيرانية المعارضة داخل وخارج ايران معنويا وسياسيا.

مصير العراق مرهون بنتائج الانتخابات الامريكية وبوصلة العراق السياسية ليست بيدي السيد الكاظمي قط. إيقاعات الغرب الامريكي الجمهوري مرتكزة على جملة من الخطط الاستراتيجية لرسم سياسات جديدة، وهذه الخطط لن تستطيع ثعابين الشرق الأوسط، والعراق تحديدا، الترنح او الرقص عليها كما فعلوا في الماضي.

المصدر