الشِّعرُ.. آه، لو أعرفُ لماذا

262

طالب عبد العزيز

كنتُ سأنحني طويلاً عند قدمي امرأة جميلة، تقول لي بأنَّ قصيدتي الاخيرة كانت سخيفةً، وأنّها لم تعثر فيها على ما يجعلها قصيدة حتى. مثل الجملة، الانثى هذه، تشعرني بالصدق، تطوّقني بالجمال، الذي كثيراً ما افتقدهُ في بريّة المديح الذكورية.

منذ لحظة الوهم الأولى التي نسبني أحدهم فيها الى الشعر وعوالمه، ما زال يشدني حنين الى مثل هكذا أنثى، تشاركني الاريكة، قبالة الحديقة، وفي لحظة نفاجة نادرة، تقول لي أعد البيت هذا ثانيةً، فتمتعض، وتتبرم، ثم لا تجد حرجاً في تسفيه ما كتبتُه من شعر، وما اعتقدته قصائدَ وكتباً، فأقوم، سعيداً من جوف مجلسي في الاريكة، أمزّق القصيدة، وأطعمها نار الموقد، الذي نتقاسمه معاً منذ المساء. أبداً، لن أضطر الى تدبيج حجّة تافهة، أبرر إخفاق القصيدة فيها، بل سأكتفي بابتسامة عريضة، عريضة جداً، كما لو أنني ممثل، لم يُحسن أداء الدور، ثم أدنو منها، بما أوتيت من ضعف وحُمق، حتى إذا مسَّني حفيفُ شعْرها قلتُ: ياه، الشِّعرُ، كلُّ الشِّعرِ أن تمزِّق قصيدتَك شكوى امرأةٍ جميلة.

كلُّ حياة تقليدية غير منتجة. الشعر والفنون بأجمعها صنيعة حياة استثنائية، تقوم على المغايرة والرفض، ولا بأس بشيء من الجنون، فلا شعرٌ ولا فنونٌ حقيقية إلا من عالم منتزع بعناية من الجنون، يكون للأنثى فيه ذاك الوجود الحسيّ، الذي يمنح الكتابة زمناً اضافياً.

بحث كافكا في العالم الانثوي عن قوة موازنة للفحولة الابويّة المستبدة، وكان كغيره من الرجال الذين يمضون في الحياة باحثين في المرأة عن بديل متجدد لصورة الأم، يصوّر (لويس غروس) في كتابه (ما لا يدرك- النساء في حياة بيسوا وكافكا وبافيزي): “الذين لم ينظمّوا الى مؤسسة الزواج أبداً، “اكتفوا بالحب المشوب بالرفض والقبول في آن”. ويكتب بافيزي لصديقته اتعرفين؟ مشكلتي الوحيدة عندما كنت صغيرا هي أنني آكل البوظة، وانا لا أتوقف عن سؤال نفسي: كم من الوقت ستدوم؟ إن حياتي تتحول الى احدى هذه البوظات.

حياة تشبه حكاية يرويها أبله. انا في السادسة عشرة كتبتْ صبيّةٌ تصغرني بسنة أو سنتين، على ورقة منتزعة من دفتر مدرسي تدعوني الى فراشها، مع هامش من شعر خليع وخطوط لرجل وامرأة في أوضاع مختلفة، سأتحاشى ذكرها هنا.

الرسالة ظلت بين أوراقي زمناً طويلاً، قبل أن أفقدها. الصبية هذه، كان يمكن لها أن تكون امرأة أخرى، تكتب الشعر، وتحب الرقص والموسيقى، أو تصنع من صلصال الوجود الحر في روحها منحوتات عاريةً، لكنها لم تكن، فقد أقنعها مصلح أجهزة كهربائية بفكرة الزواج، لتتحول الى ماكنة خياطة. في احدى رسائلها لي ظلت تتحدث طويلاً عن راقصة باليه كانت تزورها.

العراقالمصدر