الخطأ الذهبي لأمجد توفيق..خطأ إبداعي في فضاء الحرب وموسيقى الرصاص

145

د. اسماعيل عبدالوهاب اسماعيل

توطئة

لم تصادفني مهمة نقدية كمثل هذه المهمة من قبل ، بان ما اود الكتابة عنه قد يتجاوز العمل الذي سأنقده ، كل السطور التي اشرتُ تحتها بخطوط في المجموعة لأهميتها ولتناولها في هذه الدراسة، كادت ان تملأ الصفحات جميعها ..

كل شيء في هذا العمل القصصي مهم وعجيب ومؤثر ، هو مزيج من الفلسفة والغناء ونداء الروح العميق … خطاب فلسفي عن مفردات وجدانية وانسانية أشغلت البشرية منذ خليقتها ، إلا ان أمجد توفيق حل بعضا من رموزها بسحرٍ وجمالٍ وسردٍ عالٍ الاتقان..

أصدقكم القول بانني لم أتأثر بعمل حديث في ميدان الادب والسرد كما أثر فيَّ هذا العمل ، نعم أنه “خطأ ذهبي” لانه ضربة ابداع لن يكررها كاتب وأديب آخر .. ضربة متقنة بحبكة نقاوتها وصوتها الانساني .. انها مجموعة قصصية تتمرد على كل التعريفات المألوفة ، أي فلسفة هذه التي تقول بان الموت وفاء وبان الحب حرب ، وان القبح جمال، وان الوهم جسد يسبح فيه الواقع ؟! … القارئ لهذا العمل سيغرق بسريالية ابداعية جميلة ، تُسكب كل الالوان فيها فتُشكل الفسيفساء ..

هذا العمل لكي ينصف ويتناول بدقة أكثر فهو بحاجة لكتابين آخرين بحجمه ، اي 400 اربعمئة صفحة لشرح الـصفحات المئتين التي تضمنت هذه المجموعة القصصية .. إن لطابع النقد واساليبه ومنهجياته حكما على الناقد بان يؤطر نفسه بمحاور معينة ويترك للاخرين الجوانب الاخرى لتغطية هذا العمل العذب الرهيب .. ففيه لغة احترافية وسرد رائع ومتقن . لذا سأتناول اهم النقاط البارزة في هذا العمل : – الدلالة التشكيلية

نعلم ان الرسم قد مر بمراحل تطورعديدة وكانت له مدارس مختلفة بدأها بالتصويري والأنطباعي والتشكيلي والسريالي (1) ، لكننا في علم اللغة والدلالة لم نستطع تجاوز المرحلة التصويرية او بافضل الاحوال الانطباعية منها في تشكيل اللغة السردية (2) ، إلا انني بعد قراءة هذا العمل أكاد اجزم ان امجد توفيق قد اخذ بعلم الدلالة لمرحلة انشاء نظرية التشكيل فيها ، فهو كالرسام يسكب الكلمات الجميلة ويجعلها تخلق كيانا جديدا في وسط هذه الفوضى …

فيقول :

(تنسج الأساطير كما تنسج الحقائب / خيوط الاسطورة تسحب من الاحلام / وخيوط الحقيبة من صوف الماشية / يمكن ان تملأ حقيبة بالاساطير / ويمكن للاسطورة ان تنسج حقائب) ص12

تدرس الدلالة العلاقات بين المفردات وآلية ربطها سوية في سياق لغوي ، فهو هنا بهذا النسج العجيب ربط بين الأسطورة والحقيبة ، بل أراد من هذا الربط ان يخلق من عالم الفوضى ثماراً ونتيجة حتمية مفادها اننا رغم عيشنا في هذا الضياع الا ان حتمية ظهور الخلاص مؤكدة ، فيولد من الوهم “نسج الاساطير” عالم مادي “حقائب..

قد يفسر البعض هذه العلاقات بتشبيهات بلاغية ومجازية، كما في: ((وعندما يفور الدم في اثداء العذارى ، وتتفتح الخلايا في انتظار النداء…تكون ثمار الله غافية في حقيبة يحملها شاب يظلل الحلم جسارة قلبه ….. )) ص 12 القلب الجسور يوفر للعذراء سكرتها الاولى ، وهي لا تكون الإ بهذه الثمار…)) ص .12

فالربط البلاغي بين ” ثمار الله ” التائهة في الجبال العصية مع العذارى تشبيه مجازي ، ولعل تعبير (يفور الدم) كناية جميلة وظفها الكاتب للدلالة على الحرارة والتشبية بالحرقة والاندفاع ، بل يزيد بان الشاب فاعل مجازي بتشبيهه كطائر “يدخل القرى ويطوف البيوت ليوزع ثماره” ص 12 … هذا اذا ما لاحظنا كذلك “سكرة العذراء” وتشبيها بالثمرة التي تنتظر الطائر لينقذها من الوقوع في الوادي العميق السحيق الذي هو أيضا كناية عن الموت والضياع والنسيان..

وكذلك تشبيهه للمطر بانه “قبلة في لحظة الذوبان” ص 31 .. هذا التشبيه هو خلق تشكيل دلالي بين المطر والقبلة يصور مشاهد واحداث العمل القصصي بدلالات تشكيلية ..

قلبي يرقص كصقر

كصقر يرقص قلبي

يرقص قلبي كصقر ص 13

هنا ينطلق الكاتب بفلسفته الدلالية ويشكل خيوطه التشكيلية ، فيحدد الثقل الدلالي في الجملة الاولى بالقلب ، وفي الثانية بالصقر ، والثالثة بفعل يأخذ تأثيره من كلمة القلب ايضا..

فهو هنا من اللاشعور يقدم بناءً دلاليا تشكيليا ، وليس وصفيا وحسب ، بل يتعمد تصفيف الكلمات وبعثرتها كما تسكب الالوان بقواعد متمردة ، وكل هذا العبث والفوضى سيلد جمالا دلاليا رائعاً .. تهتم الدلالة بعلم المنطق logic بل انه ركيزتها الاساسية (3)، لكن الكاتب قتل بفلسفته الجميلة هذا الافتراض فعنده (الإجابة تقتل السؤال) و(الجسد هو من يقتل الرصاصة) وليس العكس كما هو مألوف منطقياً ..

(فكر بحروف كلمة “الحرب”….) ص36

هنا تتصاعد لديه التشكيلية الدلالية وتدخل في اصغر الوحدات اللغوية وهي المورفيماتMorphemes او رموز الحروف فيشكل بها عالما من الكلمات ذات الدلالة اللغوية (4) (حرب / حبر / برح / رحب / ربح ) ص36..

ربما نلاحظ تعمد الكاتب هذا التشكيل الدلالي الجميل بل انه يحترفه بشدة ، فهو يقول : “اذا كانت الافكار مدلولات تسبح في فضاء واسع ، فان الفعل جذر يمتد في الارض ، ومن العبث البحث عن اصطياد الفكرة لتسويغ الفعل او ادانته” ص 34 … فرسمه التشكيلي للوحدات الدلالية هو السمو بالفكرة ووضعها في الاعلى رسما ، ووضعه الفعل وديناميكياته في الاسفل، وهذه هي لوحة دلالية تشكيلية بامتياز ، فهو يزيد القول بان البحث عن العلاقة بينهما في لغته شيء من العبث ..

فانا كناقد او محلل لغوي لهذا التركيبات التشكيلية في الدلالة اتفق معه حين يقوم بوصف المطر والتشبيه له ((كان يسير كمن دخل في متاهة دون الرغبة في الخروج

منها…)) ص32 فهذا هو حال الدارس لتشكيلات امجد توفيق الدلالية .. نسير بمتاهة تشكيلية دون الرغبة في الخروج منها لاحترافه لها ولحبكته لجمالها..

السريالية

يعرف الفرنسي اندرية بغوتن André Breton السريالية بانها نظام ما فوق الواقعي يستخدم في الادب الحديث كمدرسة تنادي بالتعبير عن الباطن ، وينتقدها الكثيرون لافتقارها للمقومات المنطقية والتنظيم بل هي في افضل احوالها آلية تلقائية نفسية خالصة ، “من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر إما شفوياً أو كتابياً أو بأي طريقة أخرى” (5).

ان التعريف بهذه المدرسة واقتباس مفهومها يبدو هنا ضروريا للاشارة الى انتماء هذا العمل القصصي الجميل لأمجد توفيق للمبادئ السريالية ، رغم ان هذه المدرسة قد تمردت على الأطر الكلاسيكية الا انه يحسب لها اخذها التجديد واعتمادها على مبادئ حسية وجمالية وانطباعية كمبادئ لها اولوية تفوق المبادئ التقليدية الشكلانية المغلقة الآفاق ..

فهو حين يشير للموت بانه انقى صفات الوفاء (فالموت يحفظ للصدق نقاءه.. إنه يقتله..) ص15..

والموت في صورة سريالية اخرى عندما يكون (محوراً تتوازن الحياة على محيطه فهو سرها وفكرتها العميقة ) ص 15

اني ارى صورة سريالية لشجرة عظيمة تنتحر بسبب ولائها لوطنها الاول ، وهي على عكس الانسان الذي يبيع وطنه الاول لانه قد يلقى مكانا يكون فيه اكثر ترفا وبحبوحة اقتصادية ، فالشجرة في صورة امجد السريالية (نقلت شجرة غار من بستان في غرناطة ، وزرعت في ارض اخرى هي حديقة بيت جميل في بغداد يبعد ستة الاف كيلو متر عن موقع الشجرة الاصلي… لم تكن العناية او الارض المسمدة جيدا كافيتين لاحتفاظ الشجرة بحياتها ، فقد رفضت جذورها أن تشرب أو تتغذى فماتت..) ص 16 … الشجرة هي رمز للوفاء المكاني والعودة للبيئة الاولى دائماً، ويزيد القول بان الانسان بطبعه يميل للمنتصر ويخلو سلوكه من مبدأ الصدق على عكس الشجرة التي

(كانت وفية وصادقة للبيئة الاولى ، ولاعلاقة للشجرة بالمنتصرين) ص 16 ويؤكد هذا بان الولاء للمنتصر هو (انتاج انساني لايعني شجرة الغار) ص 17.

ان الكاتب يرسم رموزا تخرج عن وصفها القاموسي المعتاد في سبيل اغناء لوحته التجريدية السريالية هذه ، فالبراءة عنده هي (الضحية الاولى دائما) ص 19 ، ويعترف الكاتب بان رموزه السرياليه خيالية وليست بواقع حال ، بل انها فلسفته ونظرته للحياة كـ (رؤية أو تصور لايمتلك قدرة اشادة علاقة عضوية بواقع الحال …) ص 20 مستفهما (هل الامر محض وهم ) ص 20.. فيشدد سرياليته عبر علاقة تضاد تحدث في اسلوبه السردي فهو يفرق بين المتشابه مرة (ان كل شيء جاهز ، ولكنه غير مكتمل) ص 23 فيخلق فضاءً من التناقض بين الجهوزية والاكتمال، ومرة اخرى يقارب بين المختلفات المتضادات حين يرسم في قصة (المعرض) سيناريو من الوهم عن رجل اعمى يشرح له معاني الالوان في لوحاته فيتطابق وهمه وخياله في اليوم التالي فيقوم هنا بتقريب الوهم مع الواقع …

ويستعين ايضا بالقيم التاريخية والاجتماعية لتعزيز سرياليته برسم (العجز) كصورة من صور القوة (انت تعلم ان سمع الأعمى قوي ، ويقولون كل ذي عاهة جبار) ص 28 . فالعجز المتمثل بالعاهة هو مصدر القوة عندما نفى الكاتب هنا التعريف القاموسي “للعاهة” من العجز الى قوة ومن الاعمى الى المدرك للالوان… وفي مشهد اخر بين عاشقين يقوم بالخبط السريالي (اعترف بانك استطعت تشويش بهجتي بالمطر) ص 36، فبعد اضافته للمطر على اللوحات ، تنسكب المياه فوقها ، وتضيع الحدود بين الالوان والرموز ، فينتج هذا الخبط السريالي الذي يناغي فعل المطر التشويش والضعف في الرؤية وعدم الوضوح ….

يقدم في قصة (اخطاء الخوف) مشهدا سرياليا عن الغرق في الصمت فيقول (منذ عرفتها ، كانت أحاديثنا مبتسرة ، بل أننا غالبا ما نغرق بالصمت ونطلق حواسنا أو غرائزنا لتمارس هيمنتها وتخرس السنتنا) ص 41 .. فالقارئ سيكون امام تجريد فني من لوحة بيضاء يدب السكون في كل زواياها ، ولا صوت الا لعبث الحواس التي لا صوت لها في واقعها ، والفوضى نصيب السكون الذي واقعا لا وجود له..

وفي مثال اخر يصور النهاية بانها غيمة (النهاية هي الغيمة التي لا ترحل بفعل الريح ، ولاتسقط مطراً..) ص 58

واجمل تشبيه سريالي هو رسمه للعقاب فيقول: (فالعقاب يرتدي ثوب القدر …) ص59 – ص60، هنا نؤشر للغنى الجمالي والحس الوصفي العالي الذي وصل مرحلة التجريد والسريالية اللامتناهية الرموز: فالموت نقاء ، والنهاية غيمة ، والعذراء ثمرة ، والرجل طائر، والموت محور للحياة ، لذا يمكننا القول انه خطأ ذهبي وخطأ ابداعي لن يتكرر ابداً …

فضاء الحرب وموسيقى الرصاص

اللغة هي وعاء الفضاء السردي وهي من تشكله لفظا وتخيلاً ، وحاجة اللغة للفضاء تقابلها حاجتها لفضاء تتشكل فيه المواضيع الفكرية ، فيقوم فيه السارد بتشكيل مكوناته العديدة ، وغالبا مايكون هذا الفضاء السردي تمثيلاً تصويريا للواقع المعاش .. فهو البنية الضرورية له بقوائمه الاساسية (1) كالزمان وخيوطه مع الشخصيات السردية التخيلية وربط العلاقات مع احداث معينة متشابكة، وقوائمه الاخرى هي (2) تنقلات المكان ، وهذان البعدان (الزمان والمكان) هما خلفية تصويرية للاحداث السردية (6)

مع الليل .. مع صراخ الرصاصات التي تغادر فوهات بنادقها بحثا عن لحم حي …. مع ازدياد شهية القتل .. مع انطلاق القذائف وهي تلعب لعبة الحظ بين خطي الموت والحياة ، في هذا الوقت كنت افكر بالخوف الذي تحدثت عنه فتاتي ../ سيد الاصوات .. صوت الخوف /صوت قادر ان ينسي الجفنين حركتهما ، فتظل العينان مفتوحتين من الرعب …)) ص43

القارئ لقصة (أخطاء الخوف) ص ص 39-60 ، يلاحظ تشييد خلفية مسرحية لاحداث هذه القصة التي اراد السارد اعطاءها موسيقى تصويرية تجسدها وهي (اصوات الرصاص والاشتباكات وانفجارات العبوات الناسفة) ، تبدأ فضاءات القصة بعلاقة بين شخصين لكن طبيعة العلاقة توصف بفضاء تشبيهي للجنة ، فهو مسرح جميل لكنه مسرح محرم ، فيه الاسرار كشبابيك وابواب مغلقة ((هل أطيع سيدتي في مملكتها، أم ابحث عن الباب المسدود ، والشجرة المحرمة، وشباك الأسرار؟)) ص 43 .. ويزيد بمسرحة السردي خلفية تاريخية اخرى عن عدم التزام الابطال في القصص القديمة بالوصايا.. ص 43

واما فضاء الخوف وهو جزء من الحرب ، فيكون فضاء مفتوحا لاحدود له كرمز للضياع والتيه .. ((أم الخوف هذا العملاق المستتر ، فلا أحد يعرف عمقه أو ارتفاعه أو سعته..)) ص45 … وتسري الاحداث في فضاء الحرب على وقع موسيقى الرصاص وتظهر صور عديد وقيم:

كالشجاعة : على انها (مظاهر او مواقف او سلوك) ص45

الهرب : في هذا الفضاء (في بعض الاحيان حلاً..) ص 45

فتتصارع الاحداث وتصل عقدتها في مشهد الخوف وخلفيته الموسيقية (الرصاص) ، فيشتبك (الامل وفعله) مع (الخوف وصوته) ، فاحيانا الامل هو ((صوت شرير مكتسح كصوت الخوف)) بل احيانا اخرى الصوت يكون : ((ثمة صوت للخوف اكبر من قدرة الأنسان الفرد على المعالجة)) ص 45 …

وحتى الاستشهاد الشعري للشاعر الموصلي الراحل معد الجبوري :

الكــل باطــــل وقبــــض ريــح

متى يدق بابي الموت فاستريح

يفسر الاستشهاد بهذا البيت ان أمجد توفيق هنا يستسلم لفكرة الصراع بين خوف الانسان وأمله كأبدية لن تنتهي ابدا بل هي مرتبطة بوجود الانسان على طول حياته ، ولن يتوقف الانسان عن الخوف او يتوقف عن الامل الا حين يموت …

في الفضاء الحربي وعلى انغام الموسيقى التصويرية للرصاص يتجسد الانفجار للعبوة الناسفة بانه ((لحظة الولادة ولحظة الموت ايضاً)) ص 47 وترسم المقاربات الصورية بين العبوة والقتلة المأجورين ((العبوة اكثر حضارة وعدل من فعلهم…)) ص 47… وتصوير حالة الانتظار بانه افكار وكلمات تتداعى وتتنافر دون رابط او برابط ….

في هذا الفضاء الحربي تتمازج الاضداد فتتعايش او تتنافر تحت وقع الرصاص وقساوة الواقع وهذا استنتاج شعوري اشار اليه امجد توفيق بنفسه حين يقول ….

(( تعايش الاضداد ممكن … بل يمكن ان يكون النقيض تعريفاً / لولا الحياة ماكنا نعرف الموت … ولولا الجمال ما كنا نعرف القبح ..)) ص 55 ..

لكنه بابداعه يصر على فرز هذه المتناقضات بشفرة حادة يسميها الواقع … ((فالواقع شفرة حادة تفصل او تجمع المتناقضات)) ص 55 ..

ويقدم في هذ الفضاء أيضا مشهدا للحب الذي هو تضاد يتعايش مع الحرب فيقول ..

((مع كل انفجار ، وما اكثرها الانفجارات ،، انتظرها …

ومع كل زخة رصاص وغضب وقتل ،، انتظرها ..

وفتاتي لا وقت لها …

تأتي صباحاً …

تأتي ظهراً او عصراً )) ص 56

ولعل هذه البراعة في جمع المتضادات وجمالية تآلفه وتنسيقه ذكرتني بكتاب قرأته عن الشاعر ابي الطيب المتنبي ((الجمع بين المتناقضات في شعر المتنبي)) للدكتور د. إبراهيم عوض ،

وعن حرفيته بجمع المتضادات وخلق فسيفساء شعرية عجيبة جميلة (7)… الحــــزن يقلـــقُ، والتجمُّلُ يردعُ والـــدمعُ بينهــما عَصِـــــيٌّ طيِّــعُ

أويحاجي به: ما ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ يرى ساكتًا والسيفُ عن فيه ناطقُ

ولعل تشابه الكاتب بهذا العمل البديع والنسج الخيالي المتآلف للتناقضات جعله ينحو نحوه في هذا التركيب الجميل ، فللحزن صوت كما قال امجد توفيق وللحزن قلق عند المتنبي ، وقد اتفق امجد توفيق مع المتنبي بان للسكون وقعا (بل أننا غالبا ما نغرق بالصمت) ص 41 ..

هيكلية السرد

لكل كاتب رواية او عمل سردي هيكلية لبناء سردي يتركها كبصمة له (8) ، ولو قمنا بتحليل العناصر المشكلة لهذه البنية السردية الخاصة بمجموعة “الخطأ الذهبي” سنلاحظ ان جماليتها تتركز في البناء الآتي :

(حوار خارجي + حوار داخلي + وصف + سرد)

فيعتمد امجد توفيق على الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي بشكل كبير ، مما جعل عمله دراميا ومسرحيا تجري احداثه في اطار القصة ، وهذا التنقل والدمج في اجناس السرد هو براعة واحتراف يحسبان للكاتب .. فلو اخذنا مثالا على ذلك (ص 54) من قصة (أخطاء الخوف) سيكون البناء كالآتي :

أ- الحوار الخارجي

– لا وقت

– ماذا تقصدين ؟

– التفكير بعتق الاحزان ، ويرسب الخوف في اعماقنا ، وهو سيفعل ذلك ، ولا يحتاج الى موافقة ما .. فلماذا نمنحه زمنا أضافياً ؟

ب – الحوار الداخلي

لم اكن واثقا انني فهمتها .. كلمات تدهشني ولا تتطابق مع الصورة التي تمنحها ..

ج – الوصف

كنت مضطربا واحاول ان اخفي اضطرابي بالصمت وعبر حركات توحي بحسن الاستضافة والاهتمام ..

د -السرد

سحبتني من يدي ، وأجلستني لصقها ، وهمست بصوت مشحون بقدرة هائلة على احداث التأثير في نفسي

ثم يعيد نفس التركيبة السردية بطريقة هندسية متطابقة جدا وفي نفس الصفحة وكالآت :

أ- الحوار الخارجي

– حسنا تفعل .. لا وقت للكلام ..

ب – الحوار الداخلي

هل اطبقت على شفتيها ؟ أم انه فمها ، وشفتاها ، ولسانها ، واسنانها ، تمردوا جميعا ، وانتزعوا لهم وظائف جديدة قوامها اخماد الزمن اللئيم الملتهب بزمن حرارته نسيان ، ومكان جماله حلم ..

كم اغنية جريحة ضمّدت ؟

وكم احساس فجّرت ؟

جـ – الوصف

توق انساني عميق ومفعم بالاصالة يغذي الروح ، ويزيد نبض الحواس ، ويوقظ الغرائز ، فيحتفي الجسد بمقومات الجسد اعمقها ، وأشدها حضوراً ..

د – السرد

حين ارتدت خمارها ، أبتسمت عيناها ، فكانت ضجة الأحاسيس تشبه حقلا مزروعا بالطيور المغردة ..

كل جرح أغنية

كل ألم موال

هذا التطابق الحاصل في البناء السردي يدل على هندسية جميلة متقنة يتنقل القاص بين الاحداث بمساحات معينة وتصميم ممنهج متقن ، بل في هذا البناء بالذات نشاهد في كل وحدة بنائية وجود نهاية كسقف معماري تعبيري يصبح كأنه قبة لعمله الفني ..

ففي المثال الأخير ، بعد تطبيقه للحوار الخارجي ثم الداخلي ، ثم الوصف فالسرد ، ختمها بـ (كل جرح أغنية ، كل ألم موال) وهذا التعبير اقرب الى البناء الشعري لبحور الشعر وتفعيلاتها ..

وبهذا الختم الموسيقي يترك انطباعا دراميا وموسيقيا للحدث التام . هذا التنسيق في البناء يعطي الراحة للقاريء اثناء سريان الاحداث بسلاسة داخل القصة فيتكامل البناء الدرامي بشكل منسق وجميل ..

بل ان للتكوين السريالي والتشكيلي اثاراً قد يتشوش بها القارئ ويضيع في التجريد والتفسير الجمالي الغريب ، فقد إستعان امجد توفيق بهذه الدعامات الهيكلية كوعاء يحوي هذه التشكيلات الجميلة لتكون مؤطرة ومنسقة بعيدة عن الضياع والتيه ..

الاستنتاجات

– يتميز العمل القصصي لامجد توفيق (الخطأ الذهبي) بحرفية سردية عالية البناء ، فتصل عنده الدلالة الى مراحل تشكيلية وتجريدية عالية، أستخدم الرموز والفضاءات السريالية في تكوينها .. – يخرج الكاتب عن المعاني القاموسية للكلمات وتعاريفها بل يقدم تعاريفه الجديدة بطريقة سردية جميلة جدا مما يجعلها جاذبة للقارئ بشكل انطباعي جميل ، وغنية للناقد الذي سيغرق بالجوانب الفنية وتأويلاتها وعصية على المترجم الذي سيحتار بترجمتها دلاليا ام تداوليا ام بتصرف وكيف سينقل هذا الوهج الابداعي الى اللغة المستهدفة دون ضياع في جمال مضمونها الاصلي المرسوم كلوحة سريالية تخيلية ..

– الخطأ الذهبي عمل فريد جدا ، فهو مرة سريالي وتجريدي يصبح فيه السكون فوضى والخوف صوتا ، والبراءة ضحية ، والشجر ولاءً، ومرة اخرى نرى الهندسية العالية في تكوين الحوارات وادارة بنائها الدرامي وختمها الموسيقي الجميل والجمع بين المتناقضات والتأليف بينهما…

ـ من بين كل الاخطاء الذهبية التي ذكرها أمجد توفيق في كتابه والتي يفسر فيها معنى الخطأ بان مكنون الخطأ يجب ان يكون فريدا وذهبيا وليس متكررا وشائعا ، كخطأ الخوف والخطأ المزمن، الا انه قد طبق بعمله هذا خطاً ابداعيا لن يتكرر بجماليته وتأثيراته الانسانية العالية التي تركها في نفس القارئ كالجدالات الفلسفية والتمرد على الثوابت والأطر التقليدية….

– اعطانا هذا العمل حيزا من التأمل في التحول في الفكر الانساني والغوص في روح الانسان وجدلية المفاهيم عنده ، فكل شيء عنده كان قابلا للتحول والتجدد ، حيث ختم مجموعته بالتأكيد على التباين في الرؤية والتآلف بين المختلف والمتضاد في مكـــــنون الروح البشرية :

((كان النهر خلفنا ، غاب صوته ، وأنا أقول :

” انه عصر سقوط قوانين الجدل ، وفشل القناعات في الاحتفاظ بقدسيتها …

هتفتْ : قطتي أليفة

أجبتُ : قلبي متوحش .. )) ص 200

*****

الهوامش والمصادر

– إبراهيم عوض 1987 لغة المتنبي، دراسة تحليلية ، مطبعة الشباب الحر ومكتبتها، القاهرة .

– أمجد توفيق 2020 الخطأ الذهبي ، مجموعة قصصية ، الصحيفة العربية ، بغداد

– جوزيف أكسير 2002 شعرية الفضاء الروائي ، دار افريقيا الشرق ، الدار البيضاء

– محسن عطيه 2006، اتجاهات في الفن الحديث ، عالم الكتب ، القاهرة ،

– د. محمد سعيد شحاتة 2020 التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة في النص – قراءة في قصيدة «أن تكون في العاصمة» لعيد صالح ، الانترنت https://poetspub.com/

– مريم فرنسيس 2001في بناء النص ودلالالته (نظم النص الخطابي) ، وزارة الثقافة ، دمشق

– Breton، A.، & Polizzotti، M. (2002). Surrealism and painting. Museum of Fine Arts Boston.

– Van Benthem، J. (1986). Essays in logical semantics. Dordrecht: Reidel.

– Von Fintel، K.، & Matthewson، L. (2008). Universals in semantics. The linguistic review، 251-2، 139-201.

المصدر