أنساق الإصلاح الحسيني

590

علي سعدون تنقسم رمزية الامام الحسين عليه السلام في القراءة الثقافية الى نسقين، هما: النسق العاطفي المتواتر منذ ما يزيد على الف واربعمئة سنة، وهو نسق تنبثق دلالاته من العفوية الكبيرة الشاخصة في طريقة تفعيل ممارسة الطقوس وجعلها في صدارة واولويات المسلمين ومعهم بطبيعة الحال شريحة واسعة من المتأثرين برسالته من الديانات والطوائف الاخرى، وهو نسق غير مضمر ويتجدد على مر العصور للتأكيد على فاعلية هذه الرسالة العظيمة الممتدة من أقصى الارض الى اقصاها على وفق العديد من الدراسات والبحوث التي نفذت الى المعرفة التاريخية والاجتماعية والسياسية لتشير– على الاقل – الى المأساة بوصفها نسقا من انساق الانعتاق نحو الحرية المستلبة ومناهضة الاستبداد التاريخي في العالم كله ولم ينحصر ذلك على مساحة محلية تختص بكربلاء او الكوفة على مدى التاريخ، انما يشكل امتداده عمقا ذا دلالات كبيرة في قدرته على النمو والتصاعد كلما ارتفعت مناسيب الوعي بتلك الحرية التي كان الحسين درسها وبؤرتها الدلالية، نقول بالنسق العاطفي لأهميته، ولقدرته الشاخصة على بلورة تكوين حركية تناهض السكون والرتابة في رؤية هذا الدرس البليغ، وهي رؤية فلسفية ذات طابع قوي وفاعل في زيادة مضطردة تتسع معها مبررات تلك العاطفة وتتعدد في اشكال التعبير، غير عابئة بنوع من التجسيد الذي ينفر منه البعض ويقبله الاخر. العاطفة الطقوسية، تأخذ توهج ولمعان بريقها اينما حلت وكيفما جرت، ولنا في التطبيقات العراقية على تلك الممارسات شواهد لا تحصى بسبب من بقائها وديمومة التعلق بها من السواد الاعظم، فما علاقة ذلك بالمنهج الاصلاحي، وهو النسق الثاني في القراءة الثقافية لتلك الرمزية العظيمة ورسالتها الفاعلة؟ بتقديري الشخصي ينبثق الاصلاح، بدءا من الانقلاب الفكري والثقافي والديني على منظومة مبادئ بالية او قيم سائدة في موروثات الشعوب بمستوى متدنٍ من تلك القيم، واعتقد جازما ان الموروثات سيئة الصيت ظلت متواترة وحاضرة في المجتمع العربي والاسلامي منذ الجاهلية الى العصور الاخرى، وقد بذلت الرسالة المحمدية في سبيل اصلاحها جهودا كبيرة ومضنية استطاعت من خلالها الانتصار بقيم جديدة مبنية على العدل والمساواة وتهذيب النفس والروح بما ينعكس على صناعة مجتمع متنورن، الا أن النكوص والارتداد في العصور اللاحقة اخذ مبلغه من خلال التصارع السياسي والانحراف بالرسالة من بؤرة فلسفتها الاصلاحية الى بنية تخريب كانت تجري بوعي او من غير وعي من قبل جماعات كثيرة باحتضانها العصبيات القبلية والتناشز الطبقي وصناعة التزييف في تفوق هذا على ذاك، وبالنتيجة صار لدينا مجتمع تتعدد وتختلط فيه القيم الصحيحة بالمغلوطة، وتتصارع مرجعياته الفكرية والتاريخية على الغنيمة السياسية التي غالبا ما تنتهي بالاستحواذ على مقدرات الامة ومستقبل اجيالها، ولنا في دروس التاريخ حركات احتجاجية كثيرة وثورات سبقت ثورة الحسين وقد فشل معظمها ولم يتشكل كظاهرة من ظواهر الاصلاح ذات التأثير الكبير. كانت التضحيات الجسام واحدة من العلامات الثقافية، التي عمّقت الثورة الحسينية في وجدان العالم بوصفها دلالة سيميائية مشتعلة في الضمير الانساني الجمعي، الذي يريد أن ينتصر من خلالها على موجبات القبح، التي تتسع في العالم منذ فجر التاريخ، التي قد يقرأها المتتبع على أنها حالة من التصارع الطبيعي بين الخير والشر، وهي كذلك اذا ما جردناها من محتوى هول التضحية العظيمة، لا يمكن ان تتكرر لاحتوائها على كم هائل من الدلالات التي تحدد مصير الاخلاق والدين والتوق الى الحرية ومناهضة المستبد بأقوى صورة واقوى مشهدية، فبالرفض الذي لا مثيل له، وقد كان الشعار التاريخي لهذه المنازلة المزدانة بالتضحية الكبيرة، أن لا مهادنة ولا تسويف في الثورة على الظلم والفساد والجبروت الذي سيحيل الامة ومقدراتها الى محض سراب بسبب السياسات الاموية المضطربة والمدمرة، هذه المشهدية التي تتقدمها العلامة المضيئة – علامة الحسين الثائر -، تأخذ بأيدينا اليوم الى نوع من المقارنة التاريخية والسياسية بين فاعلية التاريخ ودروسه البليغة من جهة، وبين الارهاصات السياسية المعاصرة التي تتسيّد متن حياتنا من جهة اخرى، وهي حالة من حالات التعالق الحي بين الماضي المشع وبين الحاضر الذي يفور ويغلي ويحتاج الى بلورة ثورية حقيقية لتحقيق نوع من المقاربة بينهما، ذلك ان الامام لم يكن يسعى لترسيخ قيم التدّين وحدها بعد ختام الرسالة المحمدية العظيمة فحسب، انما عمل على جعل الاصلاح كنظرية ومفهوم في المجتمع بصورة بليغة من خلال خطبته التي سبقت الواقعة الاليمة ليوم عاشوراء بالإشارة الى ضرورة ان يكون المرء حرّا رافضا للاستبداد والتبعية ومتمسكا بقيم العدالة والعطاء والكرامة الانسانية، فضلا عن تأكيده على حفظ الذمم والعمل بمسؤولية ومراعاة التعاضد الاسري والمجتمعي وعدم السماح للمارقين من استعباد الناس بعد التنوير الكبير الذي جرى على يد الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم، وبالتالي سنرى الى القيمة الاخلاقية العالية في العلاقات الانسانية وقد تقدمت اهداف ثورته وجعلتها في اعلى هرم الثورات الاصلاحية في العالم – بقطع النظر عن توجه ذلك العالم، سواء كان اسلاميا ام غير اسلامي، شرط انهمامه بالقيم الروحية التي تقود الناس الى الشرائع الالهية العظيمة، إن النسق الاصلاحي الحسيني بتعالقه مع النسق العاطفي، الذي امتد من خلال الطقوسية العظيمة والمتجددة، أراد أن يجعل من الانسان حرّا وكبيرا في تمثيله لواقع رسالته الاسلامية الحقيقية ذات الابعاد الانسانية والاخلاقيَّة.المصدر